للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَلهَذَا قَالُوا: إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ كُلُّهُم فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُم اعْتِبَارًا بِالْبُلُوغِ، وَإِذَا أَخْطَأَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُم لَمْ يُجْزِئْهُم لِإِمْكَانِ الْبُلُوغِ؛ فَالْبُلُوغُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ سَوَاءٌ كَانَ عَلِمَ بِهِ لِلْبُعْدِ أَو لِلْقِلَّةِ.

وَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّا نَعْلَم بِيَقِينٍ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي عَهدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرَى الْهِلَالُ فِي بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا مِن الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَهُم الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَلَو كَانُوا يَجِبُ عَلَيْهِم الْقَضَاءُ لَكَانَت هِمَمُهُم تَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَحْثِ عَن رُؤَيتِهِ فِي سَائِرِ بُلْدَانِ الْإِسْلَامِ، كَتَوَفُّرِهَا عَلَى الْبَحْثِ عَن رُؤْيَتِهِ فِي بَلَدِهِ، وَلَكَانَ الْقَضَاءُ يَكثُرُ فِي أَكْثَرِ الرمضانات، وَمِثْلُ هَذَا لَو كَانَ لَنُقِلَ، وَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا (١).

وَلَو قِيلَ: إذَا بَلَغَهُم الْخَبَرُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَمْ يَبْنُوا إلَّا عَلَى رُؤْيَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَهُم فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ: لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ.

بَل الرُّؤْيَةُ الْقَلِيلَةُ لَو لَمْ تَبْلُغ الْإِنْسَانَ إلَّا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ فَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَظَرٌ وَإِن كَانَ يُفْطِرُ بِهَا (٢)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "صَوْمُكمْ يَوْمَ تَصُومُون ": دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُن يَوْمَ صَوْمِنَا، وَلِأِنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الْعِلْمَ، وَلَا عِلْمَ وَلَا دَليلَ ظَاهِرٌ فَلَا وُجُوبَ.


(١) وهو ما رواه مسلم (١٠٨٧)، عَن كُرَيْبٍ، أنَ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ، بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآه النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: "لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نَكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَو نَرَاهُ"، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: "لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-".
(٢) المعنى: لو رأى هلال رمضان قلّةٌ من الناس فأبلغوا من حولهم، ولم يصل الخبر إلى بعض البلدان إلا في أثناء الشهر، وهم لم يروا الهلال في نفس اليوم: فلا يجب عليهم قضاء ذلك اليوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>