للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَالسيّئَاتُ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا أَهْلُ الذُّنُوبِ تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَد. تَزُولُ بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ وَمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، وَقَد تَزُولُ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَبِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ فِيمَن عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ -كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ- أَنَّهُم لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا مِنْهُم بِعَيْنِهِ؛ بَل يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)} [هود: ١٨]، فَيَلْعَنُونَ مَن لَعَنَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا .. وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِدُهُ، فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَلْعَنْهُ، فَإنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ" (١).

وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِن بَابِ الْوَعِيدِ، وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لِأحَدِ الْأسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: مِن تَوْبَةٍ، أَو حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَو مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَو شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأمَّةِ: أَنَّا لَا نَلْعَنُ مُعَيّنًا مُطْلَقًا، وَلَا نُحِبُّ مُعَيّنا مُطْلَقًا.

* * *


(١) وقد بوَّب البخاري - رحمه الله -: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِن لَعْنِ شَارِبِ الخَمْرِ، وإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارجٍ مِنَ المِلَّةِ) ثم ذكر بسنده هذا الحديث.
قال الحافظ - رحمه الله -: صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي لَعْنَ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ مِن غَيْرِ أَنْ يُعَيَّنَ باسْمِهِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ؛ لِأنَّ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ وَالدُّعَاءَ عَلَيْهِ قَد يَحْمِلُهُ عَلَى التَّمَادِي أَو يُقَنِّطُهُ مِن قَبُولِ التَّوْبَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا صَرَفَ ذَلِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِ فَإِنَّ فِيهِ زَجْرًا وَرَدْعًا عَنِ ارْتكَاب ذَلِكَ وَبَاعِثًا لِفَاعِلِهِ عَلَى الْأِقْلَاعِ عَنْهُ، وَيُقَوِّيهِ النَّهْيُ عَنِ التَّثْرِيبِ عَلَى الْأمَةِ إِذَا جُلِدَتْ عَلَى الزِّنَى. اهـ. فتح الباري (١٢/ ٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>