يُتَخَوَّفُ فِيهَا مِن تَبَاغُضٍ وَأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ فِيهَا يَسِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ، وَالْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا يَسِيرُ الْغَرَرِ.
وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَت الْمَفْسَدَةُ مُنْتَفِيَة؟ [٢٩/ ٤٦ - ٤٩]
٣٥٩١ - لَا أَعْلَمُ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يَكُونُ مِن مَالِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ.
وَلَو لَمْ يَكُن فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ، وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ: "بِمَ يَأْخُدُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقّ؟ (١) فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِن جذَاذِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا وَنُضْجِهَا لَا عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِن اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَتَلَفُ الثُّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْجِذَاذِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يَزِيدُ أَجْزَاءً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةَ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنَ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وُجُودُهَا، وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُ الزَّرْعَ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ، وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ.
وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ مُرْبٍ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ، كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ.
(١) رواه البخاري (٢١٩٨).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute