وغناء الشابة لا يخلو من إحدى هذه المحاذير، فلا يجوز أن يُتخذ كلام شيخ الإسلام ذريعةً لاختلاط النساء بالرجال، أو خضوعهن بالقول. مع العلم أن المقصود بالغناء هنا: إنشاد الشعر، دون أن يصحبه طبل أو عود أو موسيقى. (٢) وهو حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْب عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ أنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَىَ رَأْسِكَ بِالدُّفِ، قَالَ: "أوْفِي بِنَذْرِكِ"، قَالَتْ: إِني نَذَرْتُ أنْ أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، مَكَانٌ كَانَ يَذْبَحُ فِيهِ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ "لِصَنَمٍ"، قَالَتْ: لَا، قَالَ: "لِوَثَنٍ"، قَالَتْ: لَا، قَالَ: "أَوْفِي بِنَذْرِكِ". رواه أبو داود (٣٣١٢)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود. وله شاهدٌ من حديث بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- أَن أَمَة سوْدَاءَ أتَتْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَد رَجَعَ مِن بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأسِكَ بِالدُّفِّ. فَقَالَ: "إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَافْعَلي وَإِلَّا فَلَا"، قَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ. قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَضَرَبَتْ بِالدُّفِّ. رواه الترمذي (٣٦٩٠)، والإمام أحمد (٢٢٩٨٩). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وقال الألباني في إرواء الغليل (٨/ ٢١٤): وإسناده صحيح على شرط مسلم. وحديث عمرو بن شعيب أصرح؛ لأن التي غنت حرة، بدليل قوله: "امْرَأَةً" وهذا لا يُطلق إلا على الحرة. وقفة: تأمل كيف يلبي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رغبة هاتين المرأتين، وعلى أمرِ يأنف منه غالب الرجال فضلًا عن العلماء والفضلاء، وهو الغناء وضرب الدف عند الرجال! ولم يكن وقت النبي -صلى الله عليه وسلم- رخيصًا عنده، ولم يكن يجد الفراغ ليسمع غناءً ولهوًا. ولكنها أخلاقه العظيمة، وشيمه النبيلة، التي بها تألّف قلوب الناس، وكسب وُدّهم. كم يأنف كثير من الناس من أقل من هذا، وكم ترفَّع بعض الناس عمَّا هو دون ضرب الدف. ومن دروس هذه القصة: ترك التكلف، ومعاملة الناس بسماحة ورفق، ومراعاة مشاعرهم، وترك الخوف من نقد الناس إذا كان الفعل لا يُخالف الشرع.