فَالْمُشْتَرِي لِذَلِكَ مِنْهُم إذَا أَعْطَاهُم الثَّمَنَ لَمْ يَكُن بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمَغْصُوبِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ وِلَايَةُ بَيْعِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا يَفْسُقُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْمَنْعِ مِن شِرَائِهَا إضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَإِفْسَادٌ لِلْأَمْوَالِ مِن غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَظْلُومِ.
وَلَا نَحْكُمُ بِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ، وَمَن اشْتَرَاهَا وَأَكَلَهَا لَمْ يَجِب الْإِنْكارُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ.
فَإِنَّ طَائِفَةً مِن الْفُقَهَاءِ أَفْتَوْا طَائِفَةً مِن الْمُلُوكِ بِجَوَازِ وَضْعِ أَصْلِ هَذِهِ الْوَظَائِفِ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي كِتَابِهِ "غِيَاثِ الْأُمَمِ"، وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمَا قُبِضَ بِتَأْوِيلٍ: فَإِنَّهُ يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِمَن قَبَضَهُ وَإِن كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُحَرَّمٌ؛ كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَإِن كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْخَمْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا".
وَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ أخَذَ خَمْرًا فِي الْجِزْيَةِ وَبَاعَ الْخَمْرَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: "وَلُّوهُم بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا". وَهَذَا ثَابِتٌ عَن عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ.
وَهَكَذَا مَن عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا فِي مَذْهَبِهِ وَقَبَضَ الْمَالَ: جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِن كَانَ لَا يَرَى جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ (١).
وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ صَاحِبَهُ؛ فَإِنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ مِمَن قَبَضَهُ قَبْضًا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ.
(١) ذكر نحو هذا الكلام في (٢٩/ ٣١٨ - ٣٢٠).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute