للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَمِن هُنَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فَيَنْظُرُونَ مَا فِي الْفِعْلِ أَو الْمَالِ مِن كَرَاهَةٍ تُوجِبُ تَرْكَهُ، وَلَا يَنْظُرُونَ مَا فِيهِ مِن جِهَةِ أَمْرٍ يُوجِبُ فِعْلَهُ (١).

مِثَالُ ذَلِكَ: مَا سُئِلَ عَنْهُ أَحْمَد: عَن رَجُلٍ تَرَكَ مَالًا فِيهِ شُبْهَةٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَهُ الْوَارِثُ: هَل يَتَوَرَّعُ عَن ذَلِكَ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ؟

فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: أَتَتْرُكُ ذِمَّةَ أَبِيك مُرْتَهَنَةً؟

وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَالْغَرِيمُ حَقُّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّرِكَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْوَارِثُ الدَّيْنَ وَإِلَّا فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِن التَّرِكَةِ، فَلَا يَجُوزُ إضَاعَةُ التَّرِكَةِ المشتبهة الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَرِيمِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إضْرَارُ الْمَيِّتِ بِتَرْكِ ذِمَّتِهِ مُرْتَهنَةً.

فَفِي الْإِعْرَاضِ عَن التَّرِكَةِ: إضْرَارُ الْمَيِّتِ وَإِضْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَانِ ظُلْمَانِ مُحَقَّقَانِ بِتَرْكِ وَاجِبَيْنِ، وَأَخْذُ الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرُ الْمَظْلُومِ.

فَقَالَ أَحْمَد لِلْوَارِثِ: أَبْرِئْ ذِمَّةَ أَبِيك، فَهَذَا الْمَالُ الْمُشْتَبَهُ خَيْرٌ مِن تَرْكِهَا مُرْتَهِنَةً بِالْأَعْرَاضِ.

وَهَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَارِثِ وُجُوبَ عَيْنٍ إنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ، أَو وُجُوبَ كِفَايَةٍ أَو مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا أَكْثَرَ مِن الِاسْتِحْبَابِ فِي تَرْكِ الشُّبْهَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ.

وَهَكَذَا جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِم وَاجِبَاتٌ: مِن نَفَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَقَارِبِهِم وَقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَكُوهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ظُلْمًا مُحَقَّقًا، وَإِذَا فَعَلُوهَا بِشُبْهَةٍ


(١) صدق رحمه الله، وهذا الخطأ يقع فيه كثيرٌ من الناس، فمن ذلك أنّ أحد الآباء كان قليل النفقة على أبنائه، مُمسكًا يده شحيحًا عليهم، فنُوصح بوجوب البذل لهم، وأنهم أحق من غيرهم، وأنك تُؤجر على الإنفاق عليهم، فقال: أخاف أنْ آثم إذا أعطيتهم فوق حاجتهم، وأن يعتمدوا على عطائي ويتركوا التكسب والعمل!

<<  <  ج: ص:  >  >>