للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُن فِي أمّتي أَحَدٌ فَعُمَرُ" (١)، وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانَ يُلْزِمُ أَحَدًا بِقَوْلِهِ، وَلَا يَحْكُمُ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ؛ بَل كَانَ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ويُرَاجَعُ (٢)؛ فَتَارَةً يَقُولُ قَوْلًا فَتَرُدُّهُ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا .. وَقَالَ: امْرَأَة أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ.

وَكَانَ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ مِثْل مَسائِلِ الْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ يَرَى رَأْيًا، وَيرَى عَلِي بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْيًا، وَيَرَى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَأْيًا، وَيرَى زيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَأْيًا، فَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ؛ بَل كُلٌّ مِنْهُم يُفْتِي بِقَوْلِهِ، وَعُمَرُ -رضي الله عنه- إمَامُ الْأُمَّةِ كُلُّهَا وَأَعْلَمُهُم وأدينهم وَأَفْضَلُهُمْ، فَكَيْفَ يَكونُ وَاحِدٌ مِن الْحُكَّامِ خَيْرًا مِن عُمَرَ!!

وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ وَاحِدٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الظَّالِمُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ؛ بَل أَمَرَ بِحُكْمَيْنِ، وَأَلَا يَكُونَا مُتَّهَمَيْنِ؛ بَل حَكَمًا مِن أَهْلِ الرَّجُلِ وَحَكَمًا مِن أَهْلِ الْمَرْأَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: ٣٥]؛ أَيْ: الْحَكَمَيْنِ، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: ٣٥]؛ أَيْ: بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.

فَإِنْ رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ جَمَعَا، وَإِن رَأَيَا الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا فَرَّقَا.

فَهُنَا لَمَّا اشْتَبَهَ الْحَقُّ لَمْ يَجْعَل اللهُ الْحُكْمَ لِوَاحِد، وَهُوَ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ


(١) رواه مسلم (٢٣٩٨).
(٢) أي: يُردُّ عليه، فإذا كان هذا حال الفاروق مع رعيَّته، فغيره من باب أولى.
والمشاورة أمان للأسر والدول من التفكك والتناحر، وبعض كبار الأسر سنًّا أو منصبًا، يأنف من الرد عليه إذا رأى رأيًا، وفاروق الأمة وحاكمها وكبيرها وعالمها لا يأنف من ذلك، بل لا يُقدم على أمر حتى يُشاور، مع أنه الملهم والمحدَّث، فيكف لغيره أن يزهد بالشورى؟

<<  <  ج: ص:  >  >>