للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلَّا فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ- يَعْنِي: الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَمُّونَ الصفاتية مُشَبِّهَةً-.

وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَن قَلْبِهِ أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَن الْعَالَمِ، وَأَنَّ يَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ، لَهُ صِفَاتٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وَأَن هَذَا الرَّبَّ الَّذِي تَصِفُهُ الْجَهْمِيَّة إنَّمَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ.

وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَن الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي جَعْفَرٍ الهمداني لِأبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي لَمَّا أخَذَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَانَ اللهُ وَلَا عَرْشَ.

فَقَالَ: يَا أُسْتَاذُ دَعْنَا مِن ذِكْرِ الْعَرْشِ-يَعْنِي: لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْعِ- أَخْبِرْنَا عَن هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ "يَا اللهُ" إلَّا وَجَدَ مِن قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ الْعُلُوَّ، لَا تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، فَكَيْفَ نَدْفَعُ هَذِهِ الضَّرُورَةَ عَن قُلُوبِنَا؟

قَالَ: فَلَطَمَ أَبُو الْمَعَالِي عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: حَيَّرَنِي الهمداني حَيَّرَنِي الهمداني وَنَزَلَ.

وَذَلِكَ لأنَّ نَفْسَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ عُلم بِالسَّمْعِ الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ عَالِيًا عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ: فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ بَنِي آدَمَ.

وَكُلُّ مَن كَانَ باللهِ أَعْرَفَ، وَلَهُ أَعْبَدَ، وَدُعَاؤُهُ لَهُ أَكْثَرَ، وَقَلْبُهُ لَهُ أذْكَرَ: كَانَ عِلْمُهُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ أقْوَى وَأَكْمَلَ.

فَالْفِطْرَةُ مُكمَّلَةٌ بِالْفِطْرَةِ الْمُنْزَلَةِ؛ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تُعْلِمُ الْأمْرَ مُجْمَلًا، وَالشَّرِيعَةُ تُفَصِّلُهُ وَتُبيِّنُهُ، وَتَشْهَدُ بِمَا لَا تَسْتَقِلُّ الْفِطْرَةُ بِهِ.

[٤/ ٤٣ - ٤٥]

وَالْجَارَيَةُ الَّتِي قَالَ لَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيْنَ اللهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>