وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَن كَانَ مَعَهُم مِمَّن كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِن التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا كُفَّارًا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ عَن بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّن لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ، مِثْل مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّن قَاتَلَهُم الصِّدِّيقُ.
وَإِن كَانَ الْمُرْتَدُّ عَن بَعْضِ الشَّوَائِعِ مُتَفَقِّهًا أَو مُتَصَوِّفًا أَو تَاجِرًا أَو كَاتِبًا أَو غَيْرَ ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِن التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَلهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِن ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِن ضَرَرِ أُولَئِكَ، وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِن انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَن بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ، وَإِن تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ.
وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ؛ إذ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِن غَيْرِهِ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" (١) عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِن النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُم بِبَيْدَاءَ مِن الْأَرْضِ إذ خُسِفَ بِهِم، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: إنَّ فِيهِمْ الْمُكْرَهَ، فَقَالَ: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ".
فَاللهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ -الْمُكْرَهُ فِيهِمْ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ- مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُم عَلَى نِيَّاتِهِمْ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُم لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟
بَل لَو ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
بَل لَو كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِن خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُم إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكفَّارَ لَو تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُم وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ.
(١) رواه البخاري (٢١١٨)، ومسلم (٢٨٨٢)، واللفظ لمسلم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute