وَإِذَا عُرفَ هَذَا: فَإِذَا انْفَسَخَ الْإقْطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ؛ إمَّا لِمَوْتِ الْمُقْطَعِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَأُقْطِعَ لِغَيْرِهِ: كَانَت الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ بِحَيْثُ لَو كَانَ الْمُقْطَعُ الْأَوَّلُ قَد أَجَّرَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ ثُمَّ انْفَسَخَ إقْطَاعُهُ انْفَسَخَتْ تِلْكَ الْإِجَارَةُ، كَمَا تَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ إذَا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
ثُمَّ إنَّ الْمُقْطَعَ الْأَوَّلَ لَمَّا ازْدَرَعَهُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ، وَصَارَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ صَارَ مُزْدَرِعًا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ غَاصِبًا يَجُوزُ إتْلَافُ زَرْعِهِ؛ بَل زَرْعُة زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَأَوْلَى، فَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرعِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْل لِمَنْفَعَةِ الثَّانِي.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ مَا أَنْفَقَة الْأوَّلُ عَلَى زَرْعِهِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ.
وَفِيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ ثَالِثٌ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ قَد اجْتَمَعَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ ابْنَا عُمَرَ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكمَا شَيْئًا، وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ أُرِيدُ حَمْلَهُ إلَيْهِ، فَخُذَاهُ اتَّجِرَا بِهِ وَأَعْطُوهُ مِثْل الْمَالِ، فَتَكُونَانِ قَد انْتَفَعْتُمَا، وَالْمَالُ حَصَلَ عِنْدَهُ مَعَ ضَمَانِكمَا لَهُ، فَاشْتَرَيَا بِهِ بِضَاعَةً، فَلَمَّا قَدِمَا إلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلَّ الْعُشْرِ أَقَرَّهُم مِثْل مَا أَقَرَّكمَا؟ فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: ضَعَا الرِّبْحَ كُلَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَسَكَتَ عَبْدُ اللهِ، وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللهِ: أَرَأَيْت لَو ذَهَبَ هَذَا الْمَالُ أَمَا كَانَ عَلَيْنَا ضَمَانُهُ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضمَانُ عَلَيْنَا؟
فَوَقَفَ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ: اجْعَلْهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَللْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ، فَعَمِلَ عُمَرَ بِذَلِكَ.
وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَنَازَعَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسْألَةِ التِّجَارَةِ بِالْوَدِيعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute