الرُّوحَ هُنَا لَيْسَ هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: ٣٨].
وَقِيلَ: بَل هُوَ رُوحُ الْآدَمِيِّ.
وَالْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ.
وَسَوَاءٌ كَانَت الْآيَةُ تَعُمُّهُمَا أَو تَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا: فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ تَارَةً، ويُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ تَارَةً أُخْرَى، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: ا]، وَقَوْلِهِ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: ٣٨]، وَهَذَا فِي لَفْظٍ غَيْرِ الْأمْرِ؛ كَلَفْظِ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَو قِيلَ: إنَّ الرُّوحَ بَعْضُ أَمْرِ اللهِ، أَو جُزْءٌ مِن أَمْرِ اللهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فوَ صَرِيحٍ فِي أَنَّهَا بَعْضُ أَمْرِ اللهِ: لَمْ يَكن الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأمْرِ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ لَا الْمَصْدَرُ؛ لِأنَّ الرَّوحَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، تَذْهَبُ وَتَجِيءُ، وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى مَصْدَرِ: أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا.
وَهَذَا قَوْلُ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا.
أَمَّا الْأعْيَانُ الْقَائِمَةُ بِأَنْفُسِهَا فَلَا تُسَمَّى أَمْرًا لَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ كَمَا سُمِّيَ الْمَسِيحُ كَلِمَةً؛ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ بِالْكَلِمَةِ، وَكَمَا يُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْجَنَّةُ رَحْمَةً، وَالْمَطَرُ رَحْمَةً فِي مِثْل قَوْلِهِ: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: ٥٠].
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَةَ (مِنْ) فِي اللُّغَةِ قَد تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ؛ كَقَوْلِهِمْ: بَابٌ مِن حَدِيدٍ، وَقَد تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ كَقَوْلِهِمْ: خَرَجْت مِن مَكَّةَ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الرُّوحَ بَعْضُ الْأَمْرِ وَمِن جِنْسِهِ؛ بَل قَد تَكُون لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ إذ كُوِّنَتْ بِالْأَمْرِ وَصَدَرَتْ عَنْهُ ..
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute