وَقَد اسْتَدَلَّ مَن اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ مقَبَّبٌ: بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد (١) وَغَيْرِهِ عَن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قال رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ هَكَذَا -وَقَالَ بِأصَابِعِهِ مِثْل الْقُبَّةِ-" وَفِي لَفْظٍ: "وَإِنَّ عَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرْضِهِ هَكَذَا -وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْل الْقُبَّةِ-".
وَهَذَا الْحَدِيثُ - وَإِن دَلَّ عَلَى التَّقْبِيبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَن الْفِرْدَوْسِ: إنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا، مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ سَقْفَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، هاِنَ فَوْقَهَا عَرْشَ الرَّحْمَنِ، وَالْأَوْسَطُ لَا يَكُونُ الْأَعْلَى إلَّا فِي الْمُسْتَدِيرِ، فَهَذَا - لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه فَلَكٌ مِن الْأَفْلَاكِ؛ بَل إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأفْلَاكِ كلِّهَا أَمْكَنَ هَذَا فِيهِ، سَوَاءٌ قَالَ الْقَائِلُ إنَّهُ مُحِيطٌ بِالْأَفْلَاكِ، أَو قَالَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا، كَمَا أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَوْقَ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِن الْأَرْضِ وَإِن لَمْ يَكُن مُحِيطًا بِذَلِكَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَلَكَ مُسْتَدِيرٌ مِثْلُ ذَلِكَ، لَكِنَّ لَفْظَ الْقُبَّةِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَة مِن الْعُلُوِّ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَارَةً مِن جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا بِدَليلٍ مُنْفَصِلٍ.
وَلَفْظُ الْفَلَكِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مطْلَقًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)} [الأنبياء: ٣٣] يَقْتَضِي أنَّهَا فِي فَلَكٍ مُسْتَدِير مُطْلَقًا.
وَأَمَّا لَفْظُ الْقُبَّةِ: فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِهَذَا الْمَعْنَى، لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ مِن الْعُلُوِّ؛ كَالْقُبَّةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَرْضِ.
وَقَد قَالَ بَعْضُهُم: إنَّ الْأَفْلَاكَ غَيْرُ السَّمَوَاتِ، لَكِنْ رَدَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦)} [نوح: ١٥، ١٦] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ، وَقَد أَخْبَرَ أنَّهُ فِي الْفَلَكِ. [٦/ ٥٥٤ - ٥٥٧]
* * *
(١) تقدم تخريجه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute