للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بَل أَوَّلُ مَن عُرِفَ فِي الْإِسْلَام أَنَّهُ جَعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ الْمَعْنَى فَقَط: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَهُوَ مُتَأخِّرٌ -فِي زَمَنِ مِحْنَةِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَل-، وَقَد أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْبِدْعَةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الذِي هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِ بَنِي آدَمَ -كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: ٢٣]- لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَتَّى جَاءَ مَن قَالَ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ.

فَإِنْ قَالُوا: فَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: ٨]، وَقَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: ٢٠٥]، وَنَحْو ذَلِكَ؟

قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ أنَّهُم قَالُوهُ بِألْسِنَتِهِمْ سِرًّا فَلَا حجَّةَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ.

قَالُوا: كَانُوا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْك، فَإذَا خَرَجُوا يَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ؛ أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُم لِبَعْضِ: لَو كَانَ نَبِيًّا عُذّبْنَا بِقَوْلِنَا لَهُ مَا نَقُولُ.

وَإِن قُدِّرَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَهُم قَالُوهُ فِي قُلُوبِهِم فَهَذَا قَوْلٌ مُقَيَّدٌ بِالنَّفْسِ.

مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نَظَائِرُهُ؛ فَإنَّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَقُولُ اللهُ: مَن ذَكرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي، وَمَن ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ" (١)، لَيْسَ المُرَادُ أنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِلِسَانِهِ؛ بَل الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَكَرَ اللهَ بِلِسَانِهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: ٢٠٥] هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ.

وقَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:


(١) رواه أحمد (٨٦٥٠)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (١٤٨٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>