لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِن الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِن الْبَاطِلِ، فَصَارَ مَلْبُوسًا، وَمَن كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ انْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ؛ وَلهَذَا كَانَ كُلُّ مَن كَتَمَ مِن أَهْلِ الْكِتَاب مَا أَنْزَلَ اللهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا.
وَهَكَذَا "أَهْلُ الْبِدَعِ" لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ، وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِن السُّنَّةِ.
وَقَد قَالَ تَعَالَى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: ١٤] فَلَمَّا تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذُكرُوا بِهِ اعتاضوا بِغَيْرِهِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُم الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ.
وَقَد تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: إذَا عَصَيْت أَمْرِي فَأنْتِ طَالِقٌ إذَا نَهَاهَا فَعَصَتْهُ هَل يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي أَمْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
قِيلَ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّهْيِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.
وَقِيلَ: يَدْخُلُ لأنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ مَعْصِيَةُ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ مَا ذُكرَ فِي الْعُرْفِ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ مِن كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا قِيلَ: أَطِعْ أَمْرَ فُلَانٍ أَو فُلَانٍ يُطِيعُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَو لَا يَعْصِي أَمْرَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ؛ لِأَنَّ النَّاهِيَ آمِرٌ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)} [البقرة: ٤٢] وَلَمْ يَقلْ: لَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ، فَلَمْ يَنْهَ عَن كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا.
وَلَيْسَتْ هَذِهِ "وَاوَ الْجَمْعِ" الَّتِي يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ "وَاوَ الصَّرْفِ" كَمَا قَد يَظنُّهُ بَعْضُهُمْ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
وَأَيْضًا: فَتِلْكَ إنَّمَا تَجِيءُ إذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ؛ كَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: ١٤٢].
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute