إلَى مَقْصُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: "هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا" لَكِنْ {بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فَصدَرَ مِنْهُم قَوْلٌ وَفِعْلٌ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: ٦٥] فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا، وَلهَذَا قِيلَ: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)} [التوبة: ٦٦] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَد أَتَوْا كُفْرُا؛ بَل ظَنُّوا أَن ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْر، فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُم إيمَانٌ ضَعِيفٌ، فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا، وَكَانَ كُفْرًا كفَرُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُم لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ، وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن السَّلَفِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضُربَ لَهُم الْمَثَل فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُم أَبْصَرُوا ثُمَّ عَمُوا وَعَرَفُوا، ثُمَّ أَنْكَرُوا وَآمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.
وَكَذَلِكَ قَالَ قتادة وَمُجَاهِدٌ: ضُربَ الْمَثَل لإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَذَهَابِ نُورِهِمْ، قَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)} [البقرة: ١٧، ١٨] إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَن قَالَ: الْمُرَادُ بِالنُّورِ مَا حَصَلَ فِي الدُّنْيَا مِن حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِذَا مَاتُوا سُلِبُوا ذَلِكَ الضَّوْءَ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءُهُ: فَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ مِن الْمُسْلِمِينَ إلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُطْفَأُ نُورُهُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُشْفِقُ مِمَّا رَأَى مِن إطْفَاءِ نُورِ الْمُنَافِقِ، فَهُوَ يَقُولُ: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: ٨] وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مِن جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا أُعْطُوا نُورًا ثُمَّ طفئ؛ لِأَنَّهُم فِي الدُّنْيَا دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهُ، وَلهَذَا ضَرَبَ اللهُ لَهُم الْمَثَلَ بِذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute