للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ، وَإِن جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.

قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْنُ أَبِي شريح أَنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأْلَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ، وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ، فَنَحْنُ نَسْتَثْنِي فِي الْعَمَلِ.

وَقَد كَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ مَعَ هَذَا يَكْرَهُونَ سُؤَالَ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ وَيَكْرَهُونَ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُرْجِئَةُ لِيَحْتَجُّوا بِهَا لِقَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ مِن نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِر؛ بَل يَجِدُ قَلْبَهُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَيَقُولُ: أَنَا مُؤْمِن، فَيُثْبِتُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ؛ لِأَنَّك تَجْزِمُ بِأَنَّك مُؤْمِنٌ، وَلَا تَجْزِمُ بِأَنَّك فَعَلْت كُلَّ مَا أُمِرْت بِهِ.

فَلَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ مَقْصِدَهُمْ: صَارُوا يَكْرَهُونَ الْجَوَابَ، أَو يُفَصِّلُونَ فِي الْجَوَابِ، وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ "الْإِيمَانِ" فِيهِ إطْلَاقٌ وَتَقْيِيدٌ، فَكَانُوا يُجِيبُونَ بِالْإِيمَانِ الْمُقَيَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ بِالْكَمَالِ، وَلهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ كَلَامَهُ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِد الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ؛ وَلهَذَا كَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يُجِيبَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ يُقَدِّمُهُ (١).

قَوْلُنَا: يَكُونُ هَذَا إنْ شَاءَ اللهُ: حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا إنْ شَاءَ اللهُ، وَاللَّفْظُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعْلِيقُ، وَلَيْسَ مِن ضَرُورَةِ التَّعْلِيقِ الشَّكُّ؛ بَل هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ، فَتَارَةً يَكُونُ شَاكًّا، وَتَارَةً لَا يَكُونُ شَاكًّا، فَلَمَّا كَانَ الشَّكُّ يَصْحَبُهَا كَثِيرًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِالْعَوَاقِبِ ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ الشَّكَّ دَاخِل فِي مَعْنَاهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.


(١) سبحان من وهبه هذا الفهم والإحاطة بأقوال السلف والمبتدعة، حتى عرف مقاصدهم ومآخذهم.
ومن جاء بعده من أهل السُّنَّة فإنما يأخذ خلاصة كلامه، وزبدة فهمه واسْتنتاجاتِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>