للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يَعْمَلْهَا"، وَمَن أَمْكنَهُ الْفِعْلُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ جَازِمَةٍ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَمُوجِبٌ لَهُ؛ إذ لَو تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَامَّةً كَافِيَةً فِي وُجُودِ الْفِعْلِ، وَمِن الْمَعْلُومِ الْمَحْسُوسِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا ريبَ أَنَّ "الْهَمَّ" و"الْعَزْمَ" و"الْإِرَادَةَ" وَنَحْو ذَلِكَ قَد يَكُونُ جَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْفِعْلُ إلَّا لِلْعَجْزِ، وَقَد لَا يَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِن الْجَزْمِ.

فَهَذَا "الْقِسْمُ الثَّانِي" يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْفَاعِلِ؛ بَل يُفَرَّقُ بَيْنَ إرَادَةٍ وَإِرَادَةٍ، إذ الْإِرَادَةُ هِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ.

فَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَانَ قَد أَتَى بِحَسَنَةٍ وَهِيَ الْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ وَخَيْرٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ:

لَأَشْكرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْت بِهِ … إنَّ اهْتِمَامَك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ

فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ؛ لِمَا مَضَى رَحْمَتَهُ أَنَّ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعمِائَةِ ضعْفٍ.

وَأَمَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةَ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا فَإِنَّ اللهَ لَا يَكْتُبُهَا عَلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وَسَوَاءٌ سُمِّيَ هَمُّهُ إرَادَةً أَو عَزْمًا أَو لَمْ يُسَمَّ، مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَهَمَّ بِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَو تَعْمَلَ بِهِ" (١)، فَإِنَّ مَا هَمَّ بِهِ الْعَبْدُ مِن الْأُمُورِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِن الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ


(١) رواه البخاري (٦٦٦٤)، ومسلم (١٢٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>