للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَبْضَةً فَقَالَ: إلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي" (١)، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ فِيهِ فَصْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْقَدَرُ السَّابِقُ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ مِن قَبْلِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ، وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ بَل قَد نَصَّ الْأئمَّةُ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ مَن جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ؛ بَل يَجِبُ الْإِيمَانُ أَنَّ اللهَ عَلِمَ مَا سَيَكُون كُلّهُ قَبْلَ أَنْ يَكونَ، وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بمَا أَخْبَرَ بِهِ مِن أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ؛ كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" (٢) عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ".

وَفِي الصَّحِيحِ (٣) أَنَّه قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعُلِمَ أَهْل الْجَنَّةِ مَن أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ فقِيلَ له: فَفِيمَ يَعْمَل الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ".

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللهَ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ، وَنَهَاهُم أَنْ يَتَّكِلُوا عَلَى هَذَا الْكِتَابِ وَيَدَعُوا الْعَمَلَ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُلْحِدُونَ.

وَقَالَ: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَإِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَهْلَ الشَّقَاوَةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ" (٤)، وَهَذَا مِن أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِن الْبَيَانِ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَد جَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا تَكُونُ بِهَا، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ، بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فَيُحْبِلَهَا، فَلَو قَالَ هَذَا: إذَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يُولَدُ لِي فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ: كَانَ أَحْمَقَ؛ لِأَنَّ اللهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِن الْوَطْءِ.


(١) رواه أحمد (٢٢٠٧٧).
(٢) (٢٦٥٣).
(٣) رواه مسلم (٢٦٤٩).
(٤) رواه البخاري (٤٩٤٩)، ومسلم (٢٦٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>