{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: ١٤٩] عَلَى خَلْقِهِ حِينَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَيْهِم فَدَعَوْهُم إلَى تَوْحِيدِهِ وَشَرِيعَتِهِ.
وَمَعَ هَذَا فَلَو شَاءَ هَدَى الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ إلَى مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ، لَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ فَيَهْدِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَيَحْرِمُ مَن يَشَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَضِّلَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَلَهُ أَنْ لَا يَتَفَضَّلَ، فَتَرْكُ تَفَضُّلِهِ عَلَى مَن حَرَمَهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَقِسْطٌ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ.
وَهُوَ يُعَاقِبُ الْخَلْقَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِن كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ الْقَدَرِّيَّةِ؛ فَإِنَّ الْقَدَرَ كَمَا جَرَى بِالْمَعْصِيَةِ جَرَى أَيْضًا بِعِقَابِهَا، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَد يُقَدِّرُ عَلَى الْعَبْدِ أَمْرَاضًا تُعْقِبُهُ آلَامًا؛ فَالْمَرَضُ بِقَدَرِهِ وَالْأَلَمُ بِقَدَرِهِ.
فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَد تَقَدَّمَت الْأِرَادَةُ بِالذَّنْب فَلَا أعَاقَبُ (١): كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَرِيضِ: قَد تَقَدَّمَت الْإرَادَةُ بِالْمَرَضِ فَلَا أَتَأَلَّمُ، وَقَد تَقَدَّمَت الْإرَادَةُ بِأكْلِ الْحَارِّ فَلَا يُحَمُّ مِزَاجِي، أَو قَد تَقَدَّمَتْ بِالضَّرْبِ فَلَا يَتَأَلَّمُ الْمَضْرُوبُ!
وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ؛ بَل اعْتِلَالُهُ بِالْقَدَرِ ذَنْبٌ ثَانٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَإِنَّمَا اعْتَلَّ بِالْقَدَرِ إبْلِيسُ حَيْثُ قَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحجر: ٣٩].
وَأَمَّا آدَمَ فَقَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: ٢٣].
فَمَن أَرَادَ اللهُ سَعَادَتَه أَلْهَمَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ آدَمَ عليه السَّلام أَو نَحْوَهُ، وَمَن أَرَادَ شَقَاوَتَهُ اعْتَلَّ بِعِلَّةِ إبْلِيسَ أَو نَحْوِهَا، فَيَكونُ كَالْمُسْتَجِيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ.
وَمَثَلُهُ: مَثَلُ رَجُلٍ طَارَ إلَى دَارِهِ شَرَارَةُ نَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْعُقَلَاءُ: أَطْفِئْهَا لِئَلَّا
(١) أي: أن الله تعالى أراد لي أن أُذنب، فكيف أُعاقب؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute