للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَإذ قَد خُلِقَ الْقَلْبُ لِأَنْ يُعْلَمَ بِهِ، فَتَوَجُّهُهُ نَحْو الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ، كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ، وَانْصِرَافَ الطَّرْفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ.

فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ، وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ.

وَإِذَا عَلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ: فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأذُنَ كَذَلِكَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، أَو الْعَيْنُ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ.

وَكَمْ مِن نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحَصِّل الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ (١)، كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِن نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ.

وَعَكْسُهُ مَن يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْء لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ إلَيْهِ سَابِقَةُ تَفْكِيرٍ فِيهِ (٢)، كَمَن فَاجَأَتْهُ رُؤَيةُ الْهِلَالِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، أَو سَمِعَ قَوْلًا مِن غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا لِأَنَ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ، قَد يَكُونُ فِعْلًا مِن الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا، وَقَد يَأْتِي فَضْلًا مِن اللهِ فَيَكونُ مَوْهُوبًا.

فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ وَاَلَّذِي خُلِقَ مِن أَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ، لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا فَقَطْ، فَقَد يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَن لَا يَكونُ عَاقِلًا لَهُ؛ بَل غَافِلًا عَنْهُ مُلْغِيًا لَهُ، وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبُطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا، فَيُطَابِقُ عَمَلُهُ قَوْلَهُ، وَبَاطِنُة ظَاهِرَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩].


(١) كحال الذين يقرؤون الجرائد والقصص والروايات للتسلية والمتعة، والذين يستمعون لأخبار الناس أو أحاديثهم وغير ذلك لمحبة الاستطلاع، فهؤلاء نَظروا وفَكّروا وأنصتوا، ولكنهم -وللأسف- لَمْ يُحَصِّلوا الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَالوهُ، بل ضيّعوا أوقاتهم، وأهدروا عقولهم بلا فائدة، فيا خسارة من هذه حاله.
(٢) كحال المقلدين، الذين يقرؤون ولا يتفكرون، ويستمعون ولا يُمحصون.

<<  <  ج: ص:  >  >>