للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

جِهَادِهِ} [الحج: ٧٨] نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦]، وَلَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَنَاقُضٌ، لَكِنْ قَد يَفْهَمُ بَعْضَ النَّاسِ مِن قَوْلِهِ: {حَقَّ تُقَاتِهِ} و {حَقَّ جِهَادِهِ} الْأمْرَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَبْدُ، فَيَنْسَخُ مَا فَهِمَهُ هَذَا، كَمَا يَنْسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ، وَإِن لَمْ يَكُن نسْخُ ذَلِكَ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ، بَل نَسْخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ: إمَّا مِن الْأَنْفُسِ، أَو مِن الْأَسْمَاعِ، أَو مِن اللِّسَانِ.

وَكَذَلِكَ يَنْسَخُ اللّهُ مَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِن فَهْمِ مَعْنًى، وَإِن كَانَت الْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِن هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الْآيَةَ [البقرة: ٢٨٤]، إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللّهَ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ لَا عَلَى أَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى كُلِّ مَا فِي النُّفوسِ، وَقَوْلَهُ: {لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ٢٨٤] يَقْتَضِي أَنَّ الْأمْرَ إلَيْهِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالْعَذَابِ لَا إلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}؛ أَيْ: لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِن كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلِ مَكْرُوهٍ.

قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَب مَا تَعْقِلُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم يَقُولُ لِلرَّجُلِ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إلَيْك وَهُوَ مُطِيقٌ لِذَلِكَ؛ لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هود: ٢٠].

قُلْت لَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ؛ بَل هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ.

والاِسْتِطَاعَةُ فِي الشَّرْعِ: هِيَ مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ لِلْمُكَلَّفِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ كَاسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، فَمَتَى كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَرَضِ أَو يُؤَخّرُ الْبُرْءَ لَمْ يَكُن مُسْتَطِيعًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةً رَاجِحَةً؛ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، لِبُغْضِ الْحَقِّ وَثقَلِهِ عَلَيْهِمْ: إمَّا حَسَدًا لِقَائِلِهِ، وَإِمَّا اتّبَاعًا لِلْهَوَى وَرَيْنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا، فَلَو لَمْ يَأْمُرِ الْعِبَادَ إلَّا بِمَا يَهْوُونَهُ لَفَسَدَت السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>