وَالْقَبُولِ مِمَن يُخَالِفُهُ، فَكانَ هُوَ مُتَخَيِّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُم وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُم، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَ مَن لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِن الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى تَبَيَّنَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي وُجُوب الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُعَاهِدِينَ مِن أَهْلِ الْحَرْبِ: كَالْمُسْتَأْمِنِ وَالْمُهَادِنِ وَالذِّمِّيِّ، فَإِنَّ فِيهِ نِزَاعًا مَشْهُورًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
قِيلَ: لَيْسَ بِوَاجِبِ؛ لِلتَّخَيُّرِ.
وَقِيلَ: بَل هُوَ وَاجِبٌ وَالتَّخْيِيرُ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩].
قَالَ الْأَوَّلُونَ: أَمَّا الْأَمْرُ هُنَا أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إذَا حَكَمَ: فَهُوَ أَمْرٌ بِصِفَةِ الْحُكْمِ لَا بِأَصْلِهِ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: ٤٢]، وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: ٥٨]. وَهَذَا أَصْوَبُ؛ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِمُحْتَمَلٍ، فَكَيْفَ بِمَرْجُوحٍ؟.
وَحَقِيقَةُ الْآيَةِ: إنْ كَانَ مُسْتَجيبًا لِقَوْم آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوهُ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ؛ كَالْمُعَاهِدِ مِن الْمُسْتَأَمَنِ وَغَيْرِهِ، الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أُمَرَائِهِ وَعُلَمَائِهِ فِي دَارهِمَ، وَكَالذِّمِّيِّ الَّذِي إنْ حَكَمَ لَهُ بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَإِلَّا رَجَعَ إلَى أَكَابِرِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَيَكُون مُتَخَيَّرًا بَيْنَ الطَّاعَةِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ.
وَأَمَّا مَن لَمْ يَكُن إلَّا مُطِيعًا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ؛ كَالْمَظْلُومِ الَّذِي يَطْلُبُ نَصْرَهُ مِن ظَالِمِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَن يَنْضرُهُ مِن أَهْلِ دِينهِ: فَهَذَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَخْيِيرٌ.
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْمُتَحَاكِمُ إلَى الْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ مِن الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ الْقَبُولِ مِن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ تَرْكِ ذَلِكَ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ.
وَهَذَا مِن حُجَّةِ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُحَدِّثُونَ الْمُعْلِنِينَ بِالْبِدَع بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute