قالَ سَعِيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِي، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
هَذَا الْحَدِيث شَرِيفُ الْقَدْرِ عَظِيمُ الْمَنْزِلَةِ، وَلهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأهْلِ الشامِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَد تَضَمَّنَ مِن قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَظِيمَةِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: "حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي" يَتَضَمَّنُ جُلَّ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ.
وَأَمَّا هَذ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: "وَجَعَلْته بَيْنَكُم مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا" فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الدِّينَ كُلَّهُ؛ فَإِنَّ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ رَاجِع إلَى الظُّلْمِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْعَدْلِ.
وَلهَذَا كَانَ الْعَدْلُ أَمْرًا وَاجِبًا فِي كُلِّ شَيءٍ، وَعَلَى كُل أَحَدٍ، وَالظُّلْمُ مُحَرَّمًا فِي كُلِّ شَيءٍ، وَلكُلِّ أحَدٍ، فَلَا يَحِلُّ ظُلْمُ أَحَدٍ أَصْلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَو كَافِرًا أَو كَانَ ظَالِمًا.
وَلهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِن غَيْرِ جَنَفٍ؛ كَالِاقْتِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، وَفي الْأعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ، فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الِاسْتِيفَاءِ عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِن إتْلَافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَن رَأَى مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنقِ. لَكِنِ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ: قَوْلُهُم أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ؛ فَإنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَد فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَمَا حَصَلَ مِن تَفَاوُتِ الْأَلَمِ خَارجٌ عَن قُدْرَتهِ.
وَامَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ، أَو رَضَّ رَأسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَضرِبَ بِالسَّيْفِ، فَهُنَا قَد تيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، وَكُنَّا قَد فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلَافِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute