الِاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُحْتَجُّ بِهِ (١)؛ فَإنَّ الِاسْتِحْبَابَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيل شَرْعِي، وَمَن أَخْبَرَ عَن اللهِ أَنَّهُ يُحِبُّ عَمَلًا مِن الْأَعْمَالِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِي فَقَد شَرَعَ مِن الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ، كَمَا لَو أَثْبَتَ الْإِيجَابَ أَو التَّحْرِيمَ، وَلهَذَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا يَخْتَلِفُونَ فِي غَيْرِهِ؛ بَل هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْمَشْرُوعِ.
وَإِنَّمَا مُرَادُهُم بِذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا قَد ثَبَتَ أَنَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ أَو مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ بِنَصٍّ أَو إجْمَاعٍ؛ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ، وَكَرَاهَةِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإذَا رُوِيَ حَدِيثٌ فِي فَضْلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَثَوَابِهَا وَكَرَاهَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَعِقَابِهَا: فَمَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَأَنْوَاعُهُ إذَا رُوِيَ فِيهَا حَدِيث لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ جَازَتْ رِوَايَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِمَعْنَى: أَنَّ النَفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ أَو تَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ كَرَجُلِ يَعْلَمُ أَنَّ التّجَارَةَ تَرْبَحُ لَكِنْ بَلَغَهُ أَنَّهَا تَرْبَحُ رِبْحًا كَثِيرًا فَهَذَا إنْ صَدَقَ نَفَعَهُ وإن كَذَبَ لَمْ يَضرَّهُ؛ وَمِثَالُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بالإسرائيليات؛ وَالْمَنَامَاتِ وَكَلِمَاتِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ؛ وَوَقَائِعِ الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ شَرْعِيٍّ؛ لَا اسْتِحْبَاب وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ وَالتَّرْجِيَةِ وَالتَّخْوِيفِ.
فَمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَو قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا أَو بَاطِلًا فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِل مَوْضُوعٌ لَمْ يُجَزْ الِالْتِفَاتُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ أُثْبِتَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ وَإِذَا احْتَمَلَ الأمْرَيْنِ رُوِيَ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِ وَلعَدَمٍ الْمَضَرَّةِ فِي كَذِبِهِ وَأَحْمَد إنَّمَا قَالَ: إذَا جَاءَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأسَانِيدِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّا نَرْوِي في ذَلِكَ بِالْأَسانِيدِ وَإِن لَمْ يَكُن محْدِثُوهَا مِن الثِّقَاتِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِهِمْ.
(١) وكأن الشيخ يُشير إلى قول ابن قدامة في المغني (١/ ٧٩٩): فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute