للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَأَعْطَى الظَّالِمَ، مَعَ اخْتِيَارِهِ أَنْ لَا يَظْلِمَ وَدَفْعَهُ ذَلِكَ لَو أَمْكَنَ (١): كَانَ مُحْسِنًا، وَلَو تَوَسَّطَ إعَانَةً لِلظَّالِمِ كَانَ مُسِيئًا.

ثُمَّ الْوِلَايَةُ -وَإِن كَانَت جَائِزَةً أَو مُسْتَحَبَّةً أَو وَاجِبَةً- فَقَد يَكُونُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْمُعيَّنِ غَيْرُهَا (٢) أَوْجَبَ أَو أَحَبَّ، فَيُقَدِّمُ حِينَئِذٍ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وُجُوبًا تَارَةً وَاسْتِحْبَابًا أُخْرَى.

وَمِن هَذَا الْبَابِ تَوَلِّي يُوسُفَ الصِّدِّيق عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِمَلِكِ مِصْرَ؛ بَل وَمَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَكَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ كُفَّارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر: ٣٤].

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُم عَادَةٌ وَسُنَّةٌ فِي قَبْضِ الْأَمْوَالِ وَصَرْفِهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَجُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ جَارِيةً عَلَى سُنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدْلِهِمْ، وَلَمْ يَكُن يُوسُفُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ مِن دِينِ اللهِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، لَكِنْ فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَنَالَ بِالسُّلْطَانِ مِن إكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ مِن أَهْلِ بَيْتِهِ مَا لَمْ يَكُن يُمْكِنُ أنْ يَنَالَهُ بِدُونِ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦].

فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا: لَمْ يَكُنِ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا، وَلَمْ يَكُن تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ محَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا لَمْ يَكُن فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِن سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ، وَسُمِّيَ هَذَا فِعْلُ مُحَرَّمٍ بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَضُرَّ.


(١) أي: هو في قرارة نفسِه يُحب ويختار ألا يقع الظلم أصلًا، ولكن لا يُمكن ذلك، فقصد تخفيف الظلم عن الرجل بقدر استطاعتِه.
(٢) أي: غير الولاية، من دعوة أو علم أو نحو ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>