للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَالْحَسَنَةُ تُتْرَكُ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أ- إذَا كَانَت مُفَوِّتَة لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا.

ب- أو مُسْتَلْزِمَةً لِسَيِّئَةٍ تَزِيدُ مَضَرَّتُهَا عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ.

هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَازَنَاتِ الدِّينيَّةِ.

وَأَمَّا سُقُوط الْوَاجِبِ لِمَضَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا، وَإِبَاحَةُ الْمُحَرَّم لِحَاجَةِ فِي الدُّنْيَا؛ كَسُقُوطِ الصِّيَامِ لِأجْلِ السَّفَرِ، وَسُقُوطِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَرَضِ: فَهَذَا بَابٌ آخَرُ يَدْخُلُ فِي سِعَةِ الدِّينِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي قَد تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ، بِخِلَافِ الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ جِنْسَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ وَإِن اخْتَلَفَتْ فِي أَعْيَانِهِ؛ بَل ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ، كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنَ الشَرِّ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ.

لَكِنْ أَقُولُ هُنَا: إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلسُّلْطَانِ الْعَامّ أَو بَعْض فُرُوعِهِ كَالْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَنَحْو ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ وَتَرْكُ مُحَرَّمَاتِهِ، وَلَكِنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ (١) مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ (٢) قَصْدًا وَقُدْرَةً: جَازَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ.

بَل لَو كَانَتِ الْوِلَايَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمٍ، وَمَن تَوَلَّاهَا أَقَامَ الظُّلْمَ حَتَّى تَوَلَّاهَا شَخْصٌ قَصدُهُ بِذَلِكَ تَخْفِيفُ الظُّلْمِ فِيهَا، وَدَفْعُ أَكْثَرِهِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِ: كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ، وَكَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنَ السَّيِّئَةِ بِنيَّةِ دَفْعِ مَا هُوَ أشَدُّ مِنْهَا جَيِّدًا (٣).

وَهَذَا بَابٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ، فَمَن طَلَبَ مِنْهُ ظَالِمٌ قَادِرٌ وَأَلْزَمَهُ مَالًا، فَتَوَسَّطَ رَجُل بَيْنَهُمَا لِيَدْفَعَ عَنِ الْمَظْلُومِ كَثْرَةَ الظُّلْمِ، وَأَخَذَ مِنْهُ


(١) أي: يتعمّد أدَاء وَاجِبَاتِهِ وَتَرْك مُحَرَّمَاتِهِ، ويسعى لتقليص الشر، وزيادة الخير بقدر طاقته.
(٢) أي: ليس هناك من يقوم بتولي الولاية وهو قادرٌ على تخفيف الشر غيره، فقد تعيّنت عليه.
(٣) ما أعظم فقه هذا الإمام الربانيّ، وأخبره بروح الشريعة، ومصالح الناس، ولا يُمكن أنْ تستقيم أمور الناس إلا بالأخذ بما قرره رحمه الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>