الْخِنْزِيرِ، وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ تَحْلِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَقَاءٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ، وَهَذَا قَد ذَكَرَهُ اللهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، لَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا مِن آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَإِنَّمَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَقَد قَالَ اللهُ فِيهَا: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٤] فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَيْسَ تَحْلِيلًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ.
فَتَحْرِيمُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَافِعٌ لِلْعَفْوِ لَيْسَ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ.
لَكِنْ لَمْ يُوَافِقْ أَهْلُ الْحَدِيثِ الْكُوفِيِّينَ عَلَى جَمِيعِ مَا حَرَّمُوهُ؛ بَل أَحَلُّوا الْخَيْلَ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتَحْلِيلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ.
وَأَحَلُّوا الضَّبَّ لِصِحَّةِ السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ قَالَ: "لَا أُحَرِّمُهُ" (١).
فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْخَبَائِثِ الْجسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ.
وَأَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ الْكُوفِيِّينَ قَد عُرِفَ تَخْفِيفُهُم فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ، فَيَعْفُونَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ عَن قَدْرِ الدِّرْهَمِ البغلي، وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ: عَن رُبُعِ الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ.
وَالشَّافِعِيُّ بِإِزَائِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَعْفُو عَنِ النَّجَاسَاتِ إلَّا عَن أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَوَنِيمِ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَعْفُو عَن دَمٍ وَلَا عَن غَيْرِهِ إلَّا عَن دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِهِ، مَعَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ أَرْوَاثَ الْبَهَائِمِ وَأَبْوَالَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ فِي النَّجَاسَاتِ نَوْعًا وَقَدْرًا أَشَدُّ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَمَالِكٌ مُتَوَسِّطٌ فِي نَوْعِ النَّجَاسَةِ وَفِي قَدْرِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ مِمَّا يُوكَلُ لَحْمُهُ، ويعْفُو عَن يَسِيرِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ.
وَأَحْمَد كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي النَّجَاسَاتِ، فَلَا يُنَجِّسُ الْأَرْوَاثَ وَالْأَبْوَالَ، ويعْفُو عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا.
(١) البخاري (٥٥٣٦)، ومسلم (١٩٤٣).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute