الْأَمْرِ وَالذَّمّ وَالْمُطْلَق مِنْهَا قَد يُقَالُ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ، كَالثَّانِيَةِ مِن الْحَجِّ وَالْفُرْقَانِ وَاقْرَأ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَكَيْفَ وَفِيهَا مَقْرُونٌ بِالتِّلَاوَةِ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)} [السجدة: ١٥] فَهَذَا نَفْيٌ لِلْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ عَمَّن لَا يَخِرُّ سَاجِدًا إذَا ذُكّرَ بِهَا، وَإِذَا كَانَ سَامِعًا لَهَا فَقَد ذُكِّرَ بِهَا.
وَكَذَلِكَ "سُورَةُ الِانْشِقَاقِ" {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)} [الانشقاق: ٢٠، ٢١] وَهَذَا ذَمٌّ لِمَن لَا يَسْجُدُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ كَقَوْلِهِ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)} [المدثر: ٤٩] {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} [الحديد: ٨].
لَكِنَّ السُّجُودَ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ الصَّلَاةِ: فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَمَن ظَنَّ هَذَا أَو هَذَا فَقَدَ غَلِطَ؛ بَل هُوَ مُتَنَاوِلٌ لَهُمَا جَمِيعًا كَمَا بَيّنهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -.
فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَالسُّجُودُ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ هُوَ سُجُودٌ مُجَرَّدٌ عِنْدَ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ، سَوَاءٌ تُلِيَتْ مَعَ سَائِرِ الْقُرْآنِ أَو وَحْدَهَا، لَيْسَ هُوَ سُجُودًا عِنْدَ تِلَاوَةِ مُطْلَقِ الْقُرْآنِ (١).
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَن دَاوُد -عليه السلام-: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤)} [ص: ٢٤] لَا ريْبَ أَنَّهُ سَجَدَ، كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سَجَدَ للّهِ، وَاللّهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَهُ بِكَوْنِهِ خَرَّ رَاكِعًا، وَهَذَا أَوَّلُ السُّجُودِ وَهُوَ خُرُورُهُ، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَوَّلَ فِعْلِهِ وَهُوَ خُرُورُهُ رَاكِعًا، لِيُبَيّنَ أَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ أَوَّلُ الْخُضوعِ الْمُنَافِي لِلْكِبْرِ، فَإِنَّ الْمُتَكَبّرَ يَكْرَهُ أَنْ يَخِرَّ ويُحِبَّ أَنْ لَا يَزَالَ مُنْتَصِبًا مُرْتَفِعًا.
(١) أي: أنّ سجدة التلاوةِ إنما تُشرع عند ورود آية فيها السجدة، لا عند تلاوة القرآن مطلقًا، ولو لم ترد آية فيها سجدة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute