ولهَذا يَأْنَفُ مِنْهُ أَهْلُ الْكِبْرِ مِن الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ، فَكَانَ أَحَدُهُم إذَا سَقَطَ مِنْهُ الشَّيءُ لَا يَتَنَاوَلُهُ لِئَلَّا يَخِرّ وَيَنْحَنِي، فَإِنَّ الْخُرُورَ انْخِفَاضُ الْوَجْهِ وَالرَّأسِ وَهوَ أَعْلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ قَد خُلِقَ رَفِيعًا مُنْتَصِبًا فَإِذَا خَفَضَهُ لَا سِيَّمَا بِالسُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ ذُلِّهِ؛ وَلهَذَا لَمْ يَصْلُح السُّجُودُ إلَّا للّهِ، فَمَن سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَن لَمْ يَسْجُدْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَن عِبَادَتِهِ، وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ مِن أَهْلِ النَّارِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ تَابعٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)} [الانشقاق: ٢٠، ٢١] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقرْآنِ، وَأَنَّهُ مَن قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْاَنُ فَهُوَ مَأمُورٌ بِالسُّجُودِ، وَالْمُصَلِّي قَد قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلْأَمْرِ بِالسُّجُودِ، فَلِهَذَا يَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ، وَالْمُنْفَرِدُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْقُرْآنَ.
وَقَد يُقَالُ: لَا يُصَلُّونَ؛ لَكِنْ قَوْلَهُ: {خَرُّوا سُجَّدًا (٥٨)} [مريم: ٥٨] صَرِيحٌ فِي السُّجُودِ الْمَعْرُوفِ لِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظِ الْخُرُورِ.
وَأمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)} فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُصَلُّونَ.
وَالثَّانِي: لَا يَخْضَعُونَ لَهُ وَلَا يَسْتَكِينُونَ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قُلْت: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ .. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَن مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ.
وَأمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَهُ عَن أَحَدٍ مِن السَّلَفِ.
وَأمَّا أَنْ يَكُونَ سُجُودُ الْإِنْسَانِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا خُضوعٌ لَيْسَ فِيهِ سُجُودُ الْوَجْهِ: فَهَذَا لَا يُعْرَفُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute