الأول: أن ابن تيمية لم يتعرض للمسافات الشاسعة التي يَعتبرها أهل العرف سفرًا حتى وإن رجع من ساعته ويومه؛ كالمائتي كيل ونحوها؛ فالناس لا يكادون يختلفون في اعتباره مسافرَا، ومثال ابن تيمية رَحِمهُ اللهُ في كلامه هذا إنما كان بالمسافة القصيرة جدًّا. ومما يؤكد ذلك أنه ذكر هذه القاعدة في مواضع عدة، ومثَّل لها بمسافات قصيرة، وهي البريد والفرسخ، وبالمسافة بين مكة وعرفة، وبالمسافة بين المدينة وقباء، وبمسير الساعة والساعتين، ولم يذكر مع هذه القاعدة مسافات شاسعة. الثاني: على تسليم أن ابن تيمية يرى عموم تلك القاعدة لجميع المسافات فإنه إنما يتكلم في تقدير ذلك بصفته من أهل العرف لا بصفته مجتهدًا مستدلًا من الشريعة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراف قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، هذا من وجه، ومن وجه آخر: قد يختلف أهل العرف أنفسهم في التقدير والحكم، وإن اتحد المكان والزمان والحال. ويلزم من طرد هذه القاعدة وهي عدم اعتبار المسافة الطويلة في المدة القليلة يلزم من ذلك أن نقول: إن من سافر بالطائرة مسافة ثلاثة آلاف كيل، أو بالسيارة ألف كيل مثلًا، ثم عاد من فوره أنه غير مسافر؛ لأنه يعود من نهاره ولا يبيت، وهذا مخالف للمقطوع به عرفًا. اهـ. حد الإقامة (٣٦ - ٣٧). وكلامه أوجه وأقرب. وقال ابن عثيمين رَحِمهُ اللهُ: المسألة لا تخلو من أربع حالات: أ- مدة طويلة في مسافة طويلة، فهذا سفر لا إشكال فيه، كما لو ذهب في الطائرة من القصيم إلى مكة، وبقي فيها عشرة أيام. ب- مدة قصيرة في مسافة قصيرة، فهذا ليس بسفر، كما لو خرج مثلًا من عنيزة إلى بريدة في ضحى يوم ورجع، أو إلى الرس أو إلى أبعد من ذلك، لكنه قريب لا يعد مسافة طويلة. ج- مدة طويلة في مسافة قصيرة، بمعنى أنه ذهب إلى مكان قريب لا ينسب لبلده، وليس منها، وبقي يومين أو ثلاثة فهذا سفر، فلو ذهب إنسان من عنيزة إلى بريدة مثلًا ليقيم ثلاثة أيام أو يومين أو ما أشبه ذلك فهو مسافر. د- مدة قصيرة في مسافة طويلة، كمَن ذهب مثلًا من القصيم إلى جدة في يومه ورجع فهذا يسمى سفرًا؛ لأن الناس يتأهبون له، ويرون أنهم مسافرون. اهـ. الشرح الممتع (٤/ ٣٥٢ - ٣٥٣).