للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَلهَذَا أَوْجَبَهَا اللهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَن يَسْتَحِقّ الْكَفَّارَةَ، وَهُم الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطى مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَاب وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ.

وَأَضعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ .. وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِن الْمَسَاكِينِ، وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً: لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا.

وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ، وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُم الصَّاعَ عَاشُوا، وَإِنَّ خَصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ، فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ، وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.

ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:"طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ" (١) نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ، وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: ٤]، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ (٢) لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ (٣)، وَلهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنَ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ النِّصَابِ، وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى


(١) رواه أبو داود (١٦٠٩)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (٣٥٧٠).
(٢) أي: زكاة الفطر وكفارة الظهار.
(٣) أي: زكاة المال.

<<  <  ج: ص:  >  >>