وَنَزَلَتْ فِتْنَةٌ تَرَكتِ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ، وَأنْزَلَتِ الرَّجُلَ الصَّاحِيَ مَنْزِلَةَ السَّكْرَانِ، وَتَرَكَت الرَّجُلَ اللَّبِيبَ لِكَثْرَةِ الْوَسْوَاسِ لَيْسَ بِالنَّائِمِ وَلَا الْيَقِظَانِ، وَتَنَاكَرَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْمَعَارِفِ وَالْإخْوَانِ، حَتَّى بَقِيَ لِلرَّجُلِ بنَفْسِهِ شُغْل عَن أَنْ يُغِيثَ اللَّهْفَانَ، وَمَيَّزَ اللهُ فِيهَا أَهْلَ الْبَصَائِرِ وَالْإِيقَانَ، مِنَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَو نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانِ، وَرَفَعَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، كمَا خَفَضَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الْمَنَازِلِ الْهَاوِيةِ، وَكَفَّرَ بِهَا عَن آخَرِينَ أعْمَالَهُم الْخَاطِئَةَ.
وَكَانَت هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِذُنُوب ظَاهِرَةٍ، وَخَطَايَا وَاضِحَةٍ، مِن فَسَادِ النِّيَّاتِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْإعْرَاضِ عَن حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنةِ، وَعَن الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللهِ، وَالْبَغْيِ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ.
فَكَانَ مِن حِكْمَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْمُؤمِنِينَ أَن ابْتَلَاهُم بِمَا ابْتَلَاهُم بِهِ لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمنُوا، ويُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ، وَليَظْهَرَ مِن عَدُوِّهِمْ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِن الْبَغْي وَالْمَكْرِ، وَالنَّكْثِ وَالْخُرُوجِ عَن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَيَقُومُ بِهِم مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ النَّصْرَ، وَبِعَدُوِّهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الِانْتِقَامَ.
فَقَد كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِن مُقَاتِلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرَعِيَّتِهِمْ مِن الشَّرِّ الْكَبِيرِ مَا لَو يَقْتَرِنُ بِهِ ظَفَرٌ بِعَدُوِّهِم -الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ- لَأوْجَبَ لَهُم ذَلِكَ مِن فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لَا يُوصَفُ، كَمَا أَنَّ نَصْرَ اللهِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ رَحْمَةً وَنعْمَةً، وَهَزِيمَتَهُم يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرًّاءُ فَشَكَرَ اللهَ كانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِن أَصَابَتْة ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ" (١).
قَالَ الشَّيْخُ: رحمه الله: كَتَبْت أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ رَحِيلِ قازان وَجُنُودِهِ، لَمَّا
(١) رواه مسلم (٢٩٩٩).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute