للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَد رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ.

فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِن غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ: لَمْ يَكُن إجْمَاعٌ أَعْظَمَ مِن هَذَا؛ بَل إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا (١).

وَقَد تَأَوَّلَ مَن أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ.

ومَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِن جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ، لَيْسَا مَن جَنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْغَرَرُ إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ لِأنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا مَالَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْبُت الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ؛ إذ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ؛ بَل ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا.

وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيءٌ حَتَّى يَكُونَ قَد أَخَذَهُ، وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا.

بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وإِجَارةِ الْغَرَرِ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا، وَالْآخَرُ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ، فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا.

وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانَت لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَو لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا" (٢) أَمَر إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِن الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِن الْمُؤَاجَرَةِ وَمِن الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.


(١) ومع ذلك تعجب من تحريم كثير من الفقهاء والعلماء للْمُسَاقَاة وَالْمُزَارَعَة، مع أن إجماع الصحابة العملي على جوازه، وهذا يُؤكد أنّه لا ينبغي التسليم لآراء كثير من الفقهاء، بل يجب الرجوع إلى نصوص الكتاب والسُّنَّة، وعمل الصحابة وفهمهم.
(٢) البخاري (٢٣٤٠)، ومسلم (١٥٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>