الْمُرَابِيَ يَأْخُذُ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِن الْمُحْتَاجِ؛ وَلهَذَا عَاقَبَهُ اللهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَقَالَ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: ٢٧٦].
وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَإِنَّهُ قَد يَغْلِبُ فَيَظْلِمُ، فَقَد يَكُونُ الْمَظْلُومُ هُوَ الْغَنِيَّ، وَقَد يَكونُ هُوَ الْفَقِيرَ، وَظُلْمُ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أَشَدُّ مِن ظُلْمِ الْغَنِيِّ.
فَالرِّبَا فِي ظُلْمِ الْأَمْوَالِ أَعْظَمُ مِن الْقِمَارِ، وَمَعَ هَذَا فَتَأَخَّرَ تَحْرِيمُهُ، وَكَانَ آخِرَ مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فَلَو لَمْ يَكُن فِي الْمَيْسِرِ إلَّا مُجَرَّدُ الْقِمَارِ لَكَانَ أَخَفَّ مِن الرِّبَا لِتَأَخُّرِ تَحْرِيمِهِ.
وَقَد أَبَاحَ الشَّارعُ أَنْوَاعًا مِن الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، كَمَا أبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تبَعًا لِلْأَصْلِ، وَجَوَّزَ بَيْعَ الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبَحْ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدولَ عَن التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ؛ إذ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنٍّ، وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمٍ، وَالْعُدُولُ عَن الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْسِرَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَتَيْنِ:
أ- مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ، وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ.
ب- وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ، وَهِيَ مَا فِيهِ مِن مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
وَكُلٌّ مِن الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ، فَيُنْهَى عَن أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا وَلَو كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا، وَيُنْهَى عَمَّا يَصُدُّ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَلَو كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ.
فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظمَ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِن الرِّبَا، وَلهَذَا حُرِّمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا. [٣٢/ ٢٢٧ - ٢٣٧]
* * *
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute