فَالْأَوَّلُ: كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، فَهَذَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ انْ يَبْذُلَ مَالَهُ فِيهَا لِيُحَصِّلَ أَغْرَاضًا مُبَاحَةٌ دُنْيَوِيَّةً وَمسْتَحَبَّةً وَدِينِيَّةً، بِخِلَافِ الْأَغْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَأمَّا الْوَقْفُ: فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ مِلْكَهُ إلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ؛ فَإِنَّهُ إذَا بَذَلَة فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ -وَالْوَقْفُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الدُّنْيَا-: صَارَ بَذْلُ الْمَالِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ لَا فِي دِينِهِ وَلَا فِي دُنْيَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلهَذَا فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَعَلَى جِهَةٍ، فَلَو وَقَفَ أو وَصَّى لِمُعَيَّن: جَازَ وَإِن كَانَ كَافِرًا ذِمِّيًّا؛ لِأنَّ صِلَتَهُ مَشْرُوعَةٌ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: ١٥].
فَإِذَا أَوْصَى أَو وَقَفَ عَلَى مُعَئنٍ وَكَانَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا: لَمْ يَكُن الْكُفْرُ وَالْفِسْقُ هُوَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا شَرْطًا فِيهِ؛ بَل هُوَ يَسْتَحِقُّ مَا أَعْطَاهُ وَإِن كَانَ مُسْلِمًا عَدْلًا، فَكَانَت الْمَعْصِيَةُ عَدِيمَةَ التَّأْثِيرِ.
بِخِلَافِ مَا لَو جَعَلَهَا شَرْطًا فِي ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْكفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، أَو عَلَى الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونوا كُفَّارًا أَو فُسَّاقًا: فَهَذَا الَّذِي لَا ريبَ فِي بُطْلَانِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ (١).
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْوَقْفِ عَلَى جِهَةٍ مُبَاحَةٍ؛ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأُصُولُ: أنَّهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: ٧] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ مَا ذَكَرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ الْفَيْءُ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ هَذَا، وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَذُمُّهُ.
فَمَن جَعَلَ الْوَقْفَ لِلْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ: فَقَد جَعَلَ الْمَالَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، فَيَتَدَاوَلُونَهُ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَهَذَا مُضَادٌّ للهِ فِي أَمْرِهِ وَدِينِهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
(١) ولا يُظن بمسلم أن يفعل ذلك.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute