وقال العلامة ابن القيم رَحِمَه الله: والبصير الصادق: يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها، ولا يَتحيَّز إلى طائفة ويَنْأى عن الأخرى بالكلية: أن لا يكون معها شيء من الحق. فهذه طريقة الصادقين، ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس. سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض غزواته قائلًا يقول: يا للمهاجرين، وآخر يقول: ياللأنصار! فقال: (ما بال دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم". هذا وهما اسمان شريفان سماهم الله بهما في كتابه، فنهاهم عن ذلك، وأرشدهم إلى أن يتداعوا بالمسلمين، والمؤمنين، وعباد الله، وهي الدعوى الجامعة. بخلاف المفرقة كالفلانية والفلانية؛ فالله المستعان. ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان، وطعم الصدق واليقين، حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه. وقد سئل بعض الأئمة عن السُّنَّة فقال: ما لا اسم له سوى (السُّنَّة). يعني: أن أهل السُّنَّة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها. فمن الناس من يتقيَّد بلباس لا يلبس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره، أو مِشية لا يمشي غيرها، أو بزِيٍّ وهيئة لا يخرج عنهما، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها، وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه، فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظَّفر بالمطلوب الأعلى، مصدودون عنه، قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة؛ فأضحوا عنها بمعزل، ومنزلتهم منها أبعد منزل. وأيضًا: فإنهم لم يتقيَّدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيُعرفون به دون غيره من الأعمال؛ فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة، وأما العبودية المطلقة: فلا يُعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم، فلا يتقيد برسم، ولا إشارة، ولا اسم، ولا بزي، ولا طريق وضعي اصطلاحي، بل إن سُئل عن شيخه قال: الرسول، وعن طريقه قال: الإتباع، وعن مذهبه قال: تحكيم السُّنَّة، وعن مقصوده ومطلبه قال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: ٥٢]. اهـ. مدارج السالكين (٢/ ٣٧٠، ٣/ ١٧٤).