للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فِيمَا أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" (١): "وَاللهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ: فِي أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِن أَنْ يُعْطيَ كفَّارَتَهُ الَّتي فَرَضَ الله" (٢).

وَاللَّجَاجُ: التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ؛ وَمِنْهُ قِيلُ: رَجُلٍ لَجُوج إذَا تَمَادَى فِي الْخُصُومَةِ؛ وَلهَذَا تُسَمِّي الْعُلَمَاءُ هَذَا "نَذْر اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ" فَإِنَّهُ يَلِجُّ حَتَّى يَعْقِدَهُ، ثُمَّ يَلِجُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِن الْحِنْثِ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللَّجَاجَ بِالْيَمِينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِن الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأيْمَانِ.

فَصُورَةُ هَذَا النَّذْرِ صُورَةُ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فِي اللَّفْظِ (٣)، وَمَعْنَاهُ شَدِيدُ الْمُبَايَنَةِ لِمَعْنَاهُ.

وَمِن هنا نَشَأَت الشُّبْهَةُ عَلَى طَائِفَةٍ مِن الْعُلَمَاءِ، وَيتَبَيَّنُ فِقْهُ الصَّحَابَةِ -رضي الله عنهم- الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لَا إلَى صُوَرِهَا.


(١) البخاري (٦٦٢٥)، ومسلم (١٦٥٥).
(٢) لجَّ في الْأَمر: لَازمه وأبى أَن ينْصَرف عَنهُ.
قال ابن حجر رحمه الله: قَوْلُهُ: "وَاللهِ لَأَنْ يَلِجَّ" بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهِيَ اللَّامُ الْمُؤَكدَةُ لِلْقَسَمِ، وَيَلِجَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيجُوزُ فَتْحُهَا مِنَ اللَّجَاج، وَهُوَ أَنْ يَتَمَادَى فِي الْأمْرِ وَلَو تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ، وَأصْلُ اللَّجَاجِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا. اهـ. فتح الباري (١١/ ٥١٩).
وقال الإمام النووي رحمه الله: مَعْنَى الْحَدِيثِ أنَّ مَن حَلَفَ يَمِينًا تتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ بحَيْث يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أنْ يَحْنَثَ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ويُكفرَ عَن يَمِينِهِ فَإِنْ قَالَ لَاَ أَحْنَثُ بَل أَتَوَرَّعُ عَنِ ارْتكَابِ الْحِنْثِ خَشْيَةَ الْإِثْمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْلِ بَلِ اسْتِمْرَار عَلَى عَدَم الْحِنْثِ وَإقَامَةِ الضرَرِ لِأَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ وَلَا بُدَّ مِن تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْث لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ آثَمُ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فَهُوَ لِقَصْدِ مُقَابَلَةِ اللَّفْظِ عَلَى زَعْمِ الْحَالِفِ أَو تَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَن عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ الْإِثْمُ فِي اللَّجَاجِ أكْثَرُ مِنَ الْإِثْمِ فِي الْحِنْثِ. اهـ. فتح الباري (١١/ ٥١٩).
(٣) فمن قال: عليّ صدقة بألف ريال إن شفى الله زوجتي، ومن قال: عليّ صدقة بألف ريال إن خرجت زوجتي من الدار بدون إذني: الصورة واحدة كما قال الشيخ، لكن بينهما فرق كبير، فالأول: قَصْدُهُ حُصُول الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ السَّلَامَةُ، وَقَصَدَ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نَذَرَهُ لَهُ. والثاني: مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ، ولَيْسَ غَرَضُهْ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللهِ بالصَّدَقَة.

<<  <  ج: ص:  >  >>