التَّشْكِيكِ دُونَ التَّحْقِيقِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ شَيْئًا وَيثْبُتُ عَلَى نَوْع مِن الْحَقِّ. [٤/ ٢٧ - ٢٨]
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّك تَجِدُ أَهْلَ الْكَلَامِ أَكْثَرَ النَّاسِ انْتِقَالًا مِن قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ، وَجَزْمًا بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ، وَجَزْمًا بِنَقِيضِهِ وَتَكْفِيرِ قَائِلِهِ فِي مَوْضِع آخَرَ، وَهَذَا دَليلُ عَدَمِ الْيَقِينِ.
فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ فِيهِ قَيْصَرُ لَمَّا سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَمَّن أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "هَل يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُم عَن دِينِهِ سَخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ".
وَلهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَو غَيْرُهُ-: "مَن جَعَلَ دِينَهُ غَرضى لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ".
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَمَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِن عُلَمَائِهِمْ وَلَا صَالِحِ عَامَّتِهِمْ رَجَعَ قَطُّ عَن قَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ؛ بَل هُم أَعْظَمُ النَّاسِ صَبْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَإن اُمْتُحِنُوا بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ، وَفُتِنُوا بِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ.
وَهَذِهِ حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ كَأَهْلِ الْأخْدُودِ وَنَحْوِهِمْ، وَكَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِن الْأئِمَّةِ.
حَتَّى كَانَ مَالِكٌ رَحِمَه الله يَقُولُ: "لَا تَغْبِطُوا أَحَدًا لَمْ يُصِبْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَلَاءٌ".
يَقُولُ: إنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنَ، فَإِنْ صَبَرَ رَفَعَ دَرَجَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)} [العنكبوت: ٢، ٣]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)} [السجدة: ٢٤] (١).
(١) أخبر تعالى أنه اختار من اصطفى وجعلهم أئمة يُؤتم ويُقتدى بهم، ويهدون الناس بأمر الله لا =
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute