للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بَل وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَيْسَ فِيهِمْ مَن كَفَّرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الثّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُم بَعْضًا بِبَعْضِ الْمَقَالَاتِ (١).

وَإِنَّمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ بِكُفْرِ هَذَا: لِأَنَّ هَذَا فَرْضُ مَا لَا يَقَعُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ مِن الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَيفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن الْمُحَرَّمَاتِ مِثْل الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ (٢)، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤمِنٌ فِي الْبَاطِنِ؛ بَل لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ.

وَلهَذَا كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُكَفِّرُونَ أَنْوَاعًا مِمَن يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ لِمَا فِيهِ مِن الِاسْتِخْفَافِ، وَيَجْعَلونَهُ مُرْتَدًّا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، مَعَ النِّزَاعِ اللَّفْظِىِّ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي الْعَمَلِ: هَل هُوَ دَاخِل فِي اسْمِ الْإِيمَانِ أَمْ لَا؟


(١) قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في حديثه عن حديث الافتراق: هَذِهِ الْفِرَقُ وَإِن كَانَت عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي"، فَإنْهُ لَو كَانَت بِبِدْعَتِهَا تَخْرُجُ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يُضِفْهَا إِلَيْهَا.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ أهل البدع؛ كالخوارج، والقدرية وغيرهما.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى خُرُوجِهِمْ عَن الْإِسْلَامِ.
وَالْأصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذن مِن تِلكَ الْفِرَقِ؛ بَلِ الْفِرَقُ مَن لَمْ تؤدّهم بدعتهم إلى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أبْقَتْ عَلَيْهِم مِن أوْصَافِ الْإسْلَام مَا دَخَلُوا بِهِ فِي أَهْلِهِ، وَالْأمْرُ بِالْقَتْلِ فِي حَدِيثِ الْخَوَارجِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكفْرِ؛ إذ لِلْقَتْلِ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، كَقَتْلِ الْمُحَارِبِ وَالْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِغَيْرِ تَأوِيلٍ، وَمَا أشْبَهَ ذَلِكَ؛ فالحق أن لا يُحْكَمَ بِكُفْرِ مَن هَذَا سَبِيلُهُ.
وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتبَيَّنُ أن التَعْيِينَ فِي دُخُولِهِمْ تَحْتَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ صَعْبٌ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ لَا قَطْعَ فِيهِ، إِلا مَا دَل عَلَيْهِ الذَلِيلُ الْقَاطِعُ للعذر وما أعز وجود مثله. اهـ. تهذيب كتاب الموافقات للمؤلف (٤٩٧ - ٤٩٨)، الاعتصام (ص ٤٥٥).
(٢) كما نُقل عن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح أنه سُئل عمن يقول: نَحْنُ نُقِرُّ بِأنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ وَلَا نُصَلِّي، وَبِأنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ وَنَشْرَبُهَا، وَأنَّ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ حَرَامٌ وَنَحْنُ نَنْكِحُ، فَنَثَرَ يَدَهُ مِن يَدِ السائل وَقَالَ: مَن فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>