وَقَد كَانَ فِي الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِمَن يَكْتُبُ وَيقْرَأُ الْمَكْتُوبَ وَكُلُّهُم أُمِّيُّونَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِم لَمْ يَبْقَوْا أُمِّيِّينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُم لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا مِن حِفْظِهِمْ؛ بَل هُم يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِن حِفْظِهِمْ، وَأَنَاجِيلُهُم فِي صُدُورِهِمْ، لَكِنْ بَقُوا أُمِّيِّينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُم لَا يَحْتَاجُونَ إلَى كِتَابَةِ دِينِهِمْ؛ بَل قُرْآنهُم مَحْفُوظٌ فِي قُلُوبِهِمْ.
فَأُمَّتُنَا لَيْسَتْ مِثْل أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ كُتبهُم فِي قُلُوبِهِمْ؛ بَل لَو عُدِمَت الْمَصَاحِفُ كُلُّهَا كَانَ الْقُرْاَنُ مَحْفُوظًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْمُسْلِمُونَ أُمَّةٌ أُمّيَّةٌ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ، كَمَا فِي "الصحِيح" عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إنَّا أمّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا" (١).
فَلَمْ يَقُلْ إنَّا لَا نَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا نَحْفَظُ؛ بَل قَالَ: لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، فَدِينُنَا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُكْتَبَ وُيحْسَبَ، كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِن أَنَّهُم يَعْلَمُونَ مَوَاقِيتَ صوْمِهِمْ وَفِطْرِهِمْ بِكِتَابٍ وَحِسَابٍ، وَدِينُهُم مُعَلَّق بِالْكُتُبِ، لَو عُدِمَتْ لَمْ يَعْرِفُوا دِينَهُمْ، وَلهَذَا يُوجَدُ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ أَكْثَرَ مِن أَهْل الْبِدَع، وَأَهْلُ الْبِدَع فِيهِمْ شَبَهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مِن بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَالْأَمِّيُّ فِي اصطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: خِلَافُ الْقَارِئِ، وَلَيْسَ هُوَ خِلَافَ الْكَاتِبِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيعْنُونَ بِهِ فِي الْغَالِبِ: مَن لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَد قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: ٧٨] إلَّا مَا يَقُولُونَهُ بأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا وَبَاطِلًا، وَرُوِيَ هَذَا عَن بَعْضِ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: الْأَمَانِيُّ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللهِ الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ كَقَوْلِهِمْ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: ٨٠] وَقَوْلِهِمْ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: ١١١].
(١) رواه البخاري (١٩١٣)، ومسلم (١٠٨٠).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute