إلَّا مُقَيَّدًا بِالْمُرِيدِ، وَلَا لَفْظُ الْعِلْمِ إلا مُقَيَّدًا بِالْعَالِمِ، وَلَا لَفْظُ الْقُدْرَةِ إلَّا مُقَيَّدًا بِالْقَادِرِ.
بَل وَهَكذَا سَائِرُ الْأَعْرَاضِ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ إلَّا فِي مَحَالِّهَا مُقَيَّدَةً بِهَا لَمْ يَكُن لَهَا فِي اللُّغَةِ لَفْظ إلَّا كَذَلِكَ.
فَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظُ السَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ، وَالطُّولِ، وَالْقِصَرِ، إلَّا مُقَيَّدًا بِالْأَسْوَدِ، وَالْأَبْيَضِ، وَالطَّوِيلِ، وَالْقَصِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا مُجَرَّدًا عَن كُلّ قَيْدٍ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا فِي كَلَامِ الْمُصَنّفِينَ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُم فَهِمُوا مِن كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُرِيدُونَ بِهِ مِن الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: ١١٢]؛ فَإِنَّ مِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: الذَّوْقُ حَقِيقَةٌ فِي الذَّوْقِ بِالْفَمِ، وَاللِّبَاسُ بِمَا يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ هَذَا وَهَذَا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل قَالَ الْخَلِيلُ: الذوْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ وُجُودُ طَعْمِ الشَيءِ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: ٩].
فَلَفْظُ الذَّوْقِ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُحِسُّ بِهِ، ويجِدُ أَلَمَهُ أَو لَذَّتَهُ، فَدَعْوَى الْمُدَّعِي اخْتِصَاصَ لَفْظِ الذَّوْقِ بِمَا يَكُون بِالْفَمِ تَحَكُّمٌ مِنْهُ.
لَكِنَّ ذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُقَالُ: ذُقْت الطَّعَامَ، وَذُقْت هَذَا الشَّرَابَ، فَيَكُونُ مَعَهُ مِن الْقُيُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَوْقٌ بِالْفَمِ.
وَأَمَّا لَفْظُ اللِّبَاسِ: فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ وَيلْتَبِسُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠)} [النبأ: ١٠]، وَقَالَ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: ٢٦] [الأعراف: ٢٦]، وَقالَ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: ١٨٧].
وَمِنْهُ يُقَالُ: لَبَسَ الْحَق بِالْبَاطِلِ إذَا خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى غَشِيَهُ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ.
فَالْجُوعُ الَّذِي يَشْمَلُ أَلَمُهُ جَمِيعَ الْجَائِعِ: نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ الَّذِي يَلْبَسُ الْبَدَنَ.
فَلَو قِيلَ: فَأَذَاقَهَا اللهُ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ: لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ شَامِلٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute