فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ.
قُلْت: وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ مَالِكٍ مَا يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا حُجَّةً وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ إنَّمَا يَذْكُرُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ.
وَلَو كَانَ مَالِكٌ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَأَخِّرَ حُجَّة يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا وَإِن خَالَفَتْ النُّصُوصَ: لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بذَلِكَ حَدَّ الْإِمْكَانِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُم اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالسّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَعَارُضَ فِيهَا وَبِالْإِجْمَاعِ.
وَقَد عَرَضَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَو غَيْرُهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُوَطَّئِهِ فَامْتَنَعَ مِن ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، وَإِنَّمَا جَمَعْت عِلْمَ أَهْلِ بَلَدِي، أَو كَمَا قَالَ.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ أَهْلِ الْمُدُنِ رِوَايَةً وَرَأْيًا، وَأَمَّا حَدِيثُهُم فَأَصَحُّ الْأَحَادِيثِ، وَقَد اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بالحديثِ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَمَّا أَحَادِيثُ أَهْلِ الشَّامِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُنِ الْكذِبُ فِي أَهْلِ بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيهِمْ، فَفِي زَمَنِ التَّابِعِينَ كَانَ بِهَا خَلْق كَثِيرُونَ مِنْهُم مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ، لَا سِيَّمَا الشِّيعَةَ؛ فَإِنَّهُم أَكْثَرُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا بِاتفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
أَمَّا أَحْوَالُ الْحِجَازِ فَلَمْ يَكُن بَعْدَ عَصْرِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِن عُلَمَاءِ الْحِجَازِ مَن يُفَضَّلُ عَلَى عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَن أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ مُخَالَفَتَهُ أَوَّلًا لِأَحَادِيثِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَمَا يُذْكَر عَن عَبْدِ الْعَزِيزِ الدراوردي أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ: تعَرَّقْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ أَيْ: صِرْت فِيهَا إلَى قَوْلِ أَهْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute