للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ -الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات: لَمْ يُكفِّرُوا أَكْثَرَ مَن تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ.

فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد -مَثَلًا- قَد بَاشَرَ "الْجَهْمِيَّة" الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ، وَامْتَحَنوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ وَفَتَنُوا الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُم عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَن الْوِلَايَاتِ، وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ (١)، وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِن أَيْدِي الْعَدُوِّ، بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِن أولي الْأَمْرِ إذ ذَاكَ مِن الْجَهْمِيَّة مِن الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ: يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَن لَمْ يَكُن جهميًّا مُوَافِقًا لَهُم عَلَى نَفْي الصِّفَاتِ، مِثْل الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ، فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً، وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِن بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً، وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِن الْأسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَمَن أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَمَن لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَن كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَو ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِن أَغْلَظِ التَّجَهُّم، فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ اعْظَمُ مِن قَوْلِهَا، وَإِثَابَةُ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةُ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِن مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالْعُقُوبَةُ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِن الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ.


(١) فيه أنّه لا بأس بإطلاق هذه العبارة، وبعض الناس ينكر أنْ يُقال: فلان قطع رزقي، فيمن سعى بعزله ونحو ذلك. وإسناد الرزق إلى المخلوق جائز بشرط أن يعتقد أنه سبب، قال العلَّامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)} [المؤمنون: ٧٢]، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} نَظَرًا إِلَى أَن بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ يَرْزُقُ بَعْضَهُمْ؛ كَقَؤلِهِ تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: ٥]، وَقَوْلهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الآية [البقرة: ٢٣٣]، وَلَا شَكَّ أَن فَضْلَ رِزْقِ اللهِ خَلْقَهُ، عَلَى رِزْقِ بَعْضِ خَلْقِهِ بَعْضِهِمْ كَفَضْلِ ذَاتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى ذَوَاتِ خَلْقِهِ، وَصِفَاتِهِمْ. أضواء البيان (٥/ ٣٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>