للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَإِذَا ظَنَّ الرُّجْحَانَ فَإِنَّمَا ظَنُّهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ هَذَا رَاجِحٌ.

فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا عَلِمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ، وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْعِلْمِ لَا لِلظَّنِّ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ كَمَا قَالَ {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: ١٤٥]، وَقَالَ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: ١٨].

فَإذَا كَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ هُوَ الْأَرْجَحَ فَاتِّبَاعُهُ هُوَ الْأَحْسَنُ وَهَذَا مَعْلُومٌ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْجَحُ مِن غَيْرِهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ.

وَحِينَئِذٍ فَمَا عَمِلَ إلَّا بِالْعِلْمِ.

وَالْقُرْآنُ ذَمَّ مَن لَا يَتَّبعُ إلَّا الظَّنَّ فَلَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُ إلَى عِلْمٍ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِن غَيْرِهِ؛ كَمَا قَالَ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: ١٥٧]، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِع يَذُمُّ الَّذِينَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ فَعِنْدَهُم ظَنّ مُجَرَّد لَا عِلْمَ مَعَهُ وَهُم يَتَّبِعُونَهُ، وَاَلذِي جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ وَعَلَيْهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ أَنَّهُم لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعِلْمٍ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِن هَذَا، فَيَعْتَقِدُونَ الرُّجْحَانَ اعْتِقَادًا عَمَلِيًّا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ أَرْجَحَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْجُوحُ هُوَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَن قَوْلِهِمْ: (الْفِقْهُ مِن بَابِ الظُّنُونِ): فالتَّحْقِيقُ أَنَّ عَنْهُ جَوَابَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: جُمْهُورُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ وَيُفْتُونَ بِهَا هِيَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الظَّنُّ وَالنِّزَاعُ فِي قَلِيلٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ، وَكَثِيرُ مَسَائِلِ الْخِلَافِ هِيَ فِي أُمُورٍ قَلِيلَةِ الْوُقُوعِ وَمُقَدَّرَةٍ، وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ لِلنَاسِ مِنْهُ مِن الْعِلْمِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِم وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمَا يُعْلَمُ مِن الدِّينِ ضَرُورَة جُزْءٌ مِن الْفِقْهِ، وَإِخْرَاجُهُ مِن الْفِقْهِ قَوْلٌ لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِن الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَهُ.

الْجَوَابُ الثَّاني: أَنْ يُقَالَ: الْفِقْهُ لَا يَكُونُ فِقْهًا إلَّا مِن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ،

<<  <  ج: ص:  >  >>