للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ (١)، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِن عُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد، كَانَ بَعْضُهُم يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ بَرِيدٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجوزُ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ لِمَن تَبَيَّنَ السُّنَّةَ وَتَدَبَّرَهَا، فَإِنَّ مَن تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَسِيَاقَهَا عَلِمَ عِلْمًا يَقِينا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن أَهْلِ مَكةَ وَغَيْرِهِمْ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا وَلَمْ يَفْعَلُوا خِلَافَ ذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بِعَرَفَةَ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ كَمَا قَصَرَ لِلسَّفَرِ؛ بَل لِاشْتِغَالِهِ بِاتِّصَالِ الْوُقُوفِ عَن النُّزُولِ، وَلِاشْتِغَالِهِ بِالْمَسِيرِ إلَى مُزْدَلِفَةَ.

وَكَانَ جَمْعُ عَرَفَةَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، وَجَمْعُ مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ السَّيْرِ الَّذِي جَدَّ فِيهِ، وَهُوَ سَيْرُهُ إلَى مُزْدَلِفَةَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ فِي سَفَرِهِ: كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ بمزدلفة.

وَأَمَّا "الْقَصْرُ" فَلَا ريبَ أَنَّهُ مِن خَصَائِصِ السَّفَرِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَه بِالنُّسُكِ، وَلَا مُسَوِّغَ لِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُم بِسَفَر، وَعَرَفَةُ عَنِ الْمَسْجِدِ بَرِيدٌ.

وَأيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ، وَبَيْنَ سَفَرِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِن بِلَادِهِمْ؟ (٢).


(١) فنبقى على الأصل، وهو القصر لكل مسافر، فمن قال بخلافه فنُطالبه بالدليل الصحيح الصريح، أو الإجماع الصريح على قوله، وإلا فالأقوال كثيرة، فليس قول أحد بأولى من القول الآخر، إلا إذا كان مع أحدهم حجة واضحة صحيحة صريحة.
(٢) كلام الشيخ رَحِمهُ اللهِ في غاية الإقناع والنظر الصحيح، والقياس الصريح، كيف وقد دلّ عليه الدليل الصحيح؟
وكثير ممن يرى التحديد يعترض على هذا ويستنكر أن يقصر الناس في مثل هذه المسافة، ويقول بعضهم: التحديد أضبط للناس! وهل المعتبر في ديننا الضبط أم اتباع الدليل؟
وأيضًا: لا نُسلم بأن التحديد أضبط؛ لأنه ليس كل الناس يعرفون مقدار المسافة -لا سيَّما في البادية وقبل العصر الحديث- فقد يتنازعون: هل هذه المدينة تبلغ مسافة ثمانين كيلًا أم لا؟
أما عدم التحديد فهو أضبط، فإذا قلنا للناس: لكم القصر إذا سافرتم من بلادكم إلى غيرها، =

<<  <  ج: ص:  >  >>