وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِن حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالضفَاتِ وَمَا لَهُ مِن الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُم فِي أفْعَالِهِ: فَلَا يَعْلَمُهُم إلَّا هُوَ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: ٣١]، وَهَذَا مِن تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّهُ لِقَائِل أَنْ يَقُولَ: لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِن ضَابِط يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ إذ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْي التَّشْبِيهِ أَو مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِن غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيد، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِن شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ؛ فَالنَّافِي إن اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ: إنْ أرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِن كُلِّ وَجْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِن أَرَدْت أَنَّة مُشَابِهٌ لَهُ مِن وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، أَو مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ؛ إذ مَا مِن شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِن وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِن وَجْهٍ، بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَة.
وَكَذَلِكَ إذَا أُثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا: فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أنْ لَا يَشْرَكُهُ شَيْءٌ مِن الْأَشْيَاءِ فِيمَا هُوَ مِن خَصَائِصِهِ، وَكُلُّ صِفَةٍ مِن صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ؛ وَلهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأمَّةِ وَأئِمَّتِهَا إثْبَاتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِن الصِّفَاتِ، وَنَفْيَ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ.
وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْم وَالْقُدْرَةِ؛ بَل الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَجِبُ لَوَازِمُهَا؛ فَإِنَّ ثبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِن لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا؛ بَل تِلْكَ مِن لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِن وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute