واختلف العلماء في علة تحريم النرد، والذي يظهر أنّ العلة ما نص عليها بعض أهلِ العلم مِن أنّها تعتمد على التخمين والحظ والصّدفة، وليس فيها إعمال للعقل والتفكير. قال الكمال بن الهمام رحمهُ اللهُ: "ولَعِبُ الطاب في بلادنا مثلُه -أي: مثلُ النرد-، يُرمى ويُطرح بلا حساب وإعمالِ فكر، وكلُّ ما كان كذلك مما أحدثه الشيطان، وعَمِلَهُ أهلُ الغفلة: فهو حرام، سوَاءٌ قُومر به أم لا" انتهى. شرح فتح القدير ٧/ ٤١٣). وقال الرافعي رحمهُ اللهُ: "وكلُّ ما اعْتَمَدَ على الحساب والفكرِ لا يحرم، وكلُّ ما يعتمد على التخمين يحرم". اهـ. (نهاية المحتاج) (٨/ ٢٨٠). وعلى هذا: فالألعاب التي تخلو من العوض ولا يترتب عليها تركُ الواجبات: لا تخلو من ثلاث حالات: الأولى: أن تعتمد على الحظ والتخمين اعتمادًا محضًا، وليس فيها إعمالٌ للفكر والعقل: فهذه لا تجوز. الثاني: أن تعتمد على إعمال الفكر والعقل اعتمادًا محضًا، لا على الحظ والتخمين، فهذه تجوز. الثالث: أن تعتمد على إعمال الفكر والعقل مع الحظ والتخمين، فالأصل فيها الجواز. واللعب بهذه الألعاب التي تعتمد على التخمين والحظ: تُسبب النكد والحسرة، وربما تُؤدّي إلى حدوث الخلافات والبغضاء؛ لأنّ الخاسر يرى أنه ما خسر إلا بسبب سوء حظه، وسوف يكرر اللعبة مرارًا إلى أن يُحالفه الحظ والنصيب، وقد يُؤدّي به ذلك إلى التسخط من القدر، ويرى أنه منزوعُ البركة والخير. فسيجد في نفسه من الْغضبِ والتسخط الشيءَ الكثير، وهذا ما جاء الإسلام بمحاربته. وهذا بخلاف الألعاب التيَ تعتمد على الذكاء والقوة، فإنّ اللاعب بها سيتنفع بها في تنمية ذكائه أو علمه أو بدنه، وإذا لعبها مع مَنْ هو أمْهَرُ منه بكثيرٍ وانهزم فإنه سيعترف بهزيمته، ولن يُكرر المحاولة، بل ربما دفعه ذلك إلى المزيد من التعلم وتنشيط ذكائه أو بدنه، وفي هذا فائدة ومصلحة. وأما الضرر على الفائز، فهو أنه يرى أنه إنما فاز بذكائه وفطنتِه، والواقعُ أنه ما فاز -في الغالب- إلا تخمينًا وصدفةً، ممّا يُؤدي به إلى تعطيلِ عقلِه، وربما غرورِه. فليس فيها ثمرةٌ ومصلحةٌ للاعبين، لا في تنميةِ عقولهم، ولا في بناء أجسادهم، بل إنَّهَا مِن أعظم أسباب ضررهم وأمراضهم، وذلك لطول جلوسهم، وقلَّةِ حركتهم، وضيقِ صدورهم. فينبغي على العاقل -إذا ابْتُلي بحب اللعب- أنْ يبحث عن ألعاب نافعةٍ تُنَمِّي العقلَ والْفِكْر. وقد فَارَقَ النَّرْدُ الشِّطْرَنْجَ: بِأَنَّ مُعْتَمَدَهُ الْحِسَابُ الدَّقِيقُ، وَالْفكْرُ الصَّحِيحُ، فَفِيهِ تَصْحِيحُ الْفِكْرِ، وَنَوْعٌ مِن التَّدْبِيرِ، وَأما مُعْتَمَدُ النَّرْدِ: فهو الْحَزْرُ وَالتَّخْمِينُ الْمُؤَدِّي إلَى غَايَةٍ مِن السَّفَاهَةِ وَالْحُمْقِ. وَيُقَاسُ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِن أَنْوَاعِ اللَّهْوِ، وَكُلُّ مَا اعْتَمَدَ الْفِكْرَ وَالْحِسَابَ: لَا يَحْرُمُ، وَكُلُّ مَا مُعْتَمَدُهُ التَّخْمِينُ يَحْرُمُ. يُنظر: حاشية الجمل (٥/ ٣٨٠).