للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَلهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: ٣٣] لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ مَشِيئَةٍ.

وَمِن هَذَا الْبَابِ "تَخْيِيرُ الْإِمَامِ فِي الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً" بَيْنَ جَعْلِهَا فَيْئًا وَبَيْنَ جَعْلِهَا غَنِيمَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَإِنَّهُم قَالُوا: إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ جَعْلَهَا غَنِيمَةً قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ، وَإِن رَأَى أَنْ لَا يَقْسِمَهَا جَازَ كَمَا لَمْ يَقْسِم النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ مَعَ أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً.

شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالسِّيرَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ؛ وَلِأنَّ خُلَفَاءَة بَعْدَهُ -أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ- فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِن أَرْضِ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَفَارِسَ؛ كَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ، وَلَمْ يَقْسِمْ أَحَدٌ مِن الْخُلَفَاءِ شَيْئًا مِن الْعَقَارِ الْمَغْنُومِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ: لَا السَّوَادَ وَلَا غَيْرَ السَّوَادِ؛ بَل جَعَلَ الْعَقَارَ فَيْئًا لِلْمسْلِمِينَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: ٧].

وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَعْدَلُ الْأَقَاوِيلِ وَأَشْبَهُهَا بِالْكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأُصُولِ، وَهُم الَّذِينَ قَالُوا: يُخيَّر الْإِمَامُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَخْيِيرَ رَأيِ وَمَصْلَحَةٍ لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ وَمَشِيئَةٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يخَيَّرُ فِيهِ وُلَاةُ الْأَمْرِ.

وَمَن تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَة؛ كَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَالْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ: لَا يُخَيَّرُونَ تَخْيِيرَ مَشِيئَةٍ وَشَهْوَةٍ؛ بَل تَخْيِيرَ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ وَطَلَبٍ وتحري للأصلح (١).


(١) في الأصل: (الْجَوَازِ الْأصْلَحِ)، وفي جامع المسائل (٣/ ٤٠٩)، ومختصر الفتاوى المصرية (٦١٨): وَيُجزى للأصلح، والمثبت من المستدرك على فتاوى شيخ الإسلام (١/ ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>