وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلَ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُخَالِفُ اجْتِهَادَهُم -: فَهُم مَعْذُورُونَ لِكَوْنِهِمْ اجْتَهَدُوا و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦].
وَلَكِنْ مَن عَلِمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَن السُّنَّةِ إلَى غَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦)} [الأحزاب: ٣٦].
وَمَن اتَّبَعَ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ كَانَ مَهْدِيًّا مَنْصُورًا بِنُصْرَةِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١)} [غافر: ٥١]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)} [الصافات: ١٧١ - ١٧٣].
وَإِذَا أَصَابَت الْعَبْدَ مُصِيبَةٌ كَانَت بِذَنْبِهِ لَا بِاتَّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -؛ بَل بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - يُرْحَمُ وَيُنْصَرُ وَبِذُنُوبِهِ يُعَذَّبُ وَيُخْذَلُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)} [الشورى: ٣٠].
فَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ نَصْرُهُ وَالْجِهَادُ عَلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ فَذَاكَ يُقَال لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي، لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتُهُ؛ بَل الْقَاضِي الْعَالِمُ الْعَادِلُ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ تَارَةً، وَلَو حَكَمَ الْحَاكِمُ لِشَخْصٍ بِخِلَافِ الْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَو كَانَ الْحَاكِمُ سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألحَنُ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْو مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَن قَضَيْت لَهُ مِن حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُدُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِن النَّارِ" (١)، فَهَذَا سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ
(١) رواه البخاري (٢٦٨٠)، ومسلم (١٧١٣).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute