بِلِسَانِهِ، والْمُتَصَبِّرُ هُوَ الَّذِي (لَا) (١) يَتَكَلَّفُ الصَّبْرَ، فَأَخْبَرَ أَنهُ مَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الصَّبْرِ عَلَى الْفَاقَةِ، بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَارَةِ الْحَاجَةِ، لَا يَجْزَعُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ مِن الْفَقْرِ، وَهُوَ الصَّبْرُ فِي الْبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: ١٧٧]، و"الضَّرَّاءُ" الْمَرَضُ، وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتلِيَ بِهِ مِنْ حَاجةٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ.
وَالصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِن الصَّبْرِ عَلَى الْمَرَضِ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ وَلذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعَنَتِ فِي الْجِهَادِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِن الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّبْرَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ.
وَكَذَلِكَ لَو اُبْتُلِيَ فِي الْجِهَادِ بِفَاقَة أَو مَرَضٍ حَصَلَ بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ، وَكَذَلِكَ مَا يُؤذَى الْإِنْسَانُ بِهِ فِي فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ -كَالصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ- مِن الْمَصَائِبِ، فَصَبْرُهُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ: مِنْ رِئَاسَةٍ، وَأَخْذِ مَالي، وَفِعْلِ فَاحِشَةٍ، كَانَ صَبْرُه عَنْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْبِرّ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا دُونَهَا.
فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ وَالْإِمَارَةِ وَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالزكَاةِ مِن الْفِتَنِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَيعْرِضُ فِي ذَلِكَ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ وَالصُّوَرِ، فَإِذَا كَانَت النَّفْسُ غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِ كَمَا تَطْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ تَطْلُبُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ، بِخِلَافِ حَالِهَا بِدُونِ الْقُدْرَةِ.
(١) هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute